للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قال المصنف : كذب نوبخت، إن كان أراد مدينة المنصور التي هي بغداد وهي من الجانب الغربي من دجلة فقد خربت خرابًا كليًّا بحيث لم يبق منها شيء، وقُتل فيها الأمين، ومات بها محمَّد القاهر، وإن أراد الجانب الشرقي فقد مات بها عامة الخلفاء، وقتل بها المقتدر، ولم يخرج عنها سوى الراشد والمسترشد.

ثم أحضر المهندسين، وضرب اللَّبِن، وأحرق الآجر، وأمر أن تُخَطّ له، فخُطَّت وبُيِّن له صورتها.

قال ابن عياش: فأخذ بيده لبنة وقال: بسم الله وبالله ﴿إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف: ١٢٨].

ثم قال لخالد بن بَرْمَك: ما ترى في نقض إيوان كسرى وصرف أنقاضه إلى بناء هذه المدينة؟ فقال: لا أرى ذلك، قال: ولم؟ قال: لأنه عَلم من أعلام الإِسلام، يَستدلُّ به الناظر إليه على أنَّه لم يكن ليزال مثل أصحابه عنه بأمر دنيا، وإنما هو بأمر دين، فقال أبو جعفر: أبيت إلَّا الميل إلى أصحابك الأعاجم.

وأمر أن يُنقَض القصر الأبيض، فنُقضت ناحية منه، وحُمل نقضه، فنظروا في مقدار ما يلزمهم للنقض والحمل فوجدوا ذلك أكثر من ثمن الحديد، فقال أبو جعفر لخالد: ما ترى؟ قال: قد كنتُ أرى أن لا يُنقض، فأما الآن فأرى أن يُهدم حتَّى يَلحق بالأرض، قال: ولم؟ قال: لئلا يقال: إنك عجزت عن هدم ما بناه أولئك، فأعرض عن هدمه.

وذكر الخَطيب: أن المنصور همَّ بنقض الإيوان، واستشار أصحابه فصَوَّبوا رأيه إلَّا كاتب من الفرس فقال له: يَا أمير المُؤْمنين، قد علمتَ خروج رسول الله من تلك القرية، وكان منزله ومنزل أصحابه على ما قد علمت، خرج أصحاب تلك المنازل مع ضعفهم إلى صاحب هذا الإيوان مع عزَّته وصعوبة أمره؛ حتَّى غلبوه، وسلبوه ملكَه قهرًا، وقتلوه، فيجيء الجائي من أقاصي الأرض، فينظر إلى تلك القرية وإلى هذا الإيوان؛ فيتيقن أن الله أيَّده، وكان معه ومع أصحابه، ففي تركه فخر لكم، فاتَّهمه (١).

وأمر المنصور أن يُجعل الأساس من أسفله خمسين ذراعًا، وأعلاه عشرين ذراعًا.


(١) تاريخ بغداد ١/ ٤٥٥، والمنتظم ٨/ ٧٣.