﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾ فإن قيل: فلمَ لم يقل: من الجبِّ وهو أوّل ما ابتلي به؟ فالجواب من وجوه:
أحدها: أنَّه استعمل الكرم لئلا يذكِّر إخوته ما فعلوا به فيكون تأنيبًا لهم وقد قال: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيكُمُ﴾.
والثاني: لأن نعم الله عليه في نجاته من السجن كانت أكثر عليه من نعمته في إنقاذه من الجب؛ لأن وقوعه في الجب كان من حسد إخوته، ووقوعه في السجن مكافأة من الله تعالى لزلَّته.
والثالث: أن السجن جبٌّ أيضًا، فحسَّنَ العبارة.
﴿وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْو﴾ لأن يعقوب وبنيه كانوا أهل بادية ﴿مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيطَانُ بَينِي وَبَينَ إِخْوَتِي﴾ أي: أفسد ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ﴾ أي: ذو لطف وصنع ﴿لِمَا يَشَاءُ﴾ عليم عالم بدقائق الأمور ﴿إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [يوسف: ١٠٠].
وقال علماء السير: ولما جمع الله شمل يوسف، وأقرَّ عينه وأتمَّ له رؤياه، وكان موسعًا عليه في دنياه، علم أن ذلك لا يدوم ولابدَّ من فراقه، فأراد نعيمًا هو أفضل منه، فتاقت نفسه إلى الجنّة، فتمنى الموت فدعا، ولم يتمنَّ نبيٌّ قبله ولا بعده الموت، فقال: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيتَنِي مِنَ الْمُلْكِ﴾ يعني مُلْك مِصْر ﴿وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْويلِ الْأَحَادِيثِ﴾ يعني تعبير الرؤيا ﴿فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: يا خالقهما وبارئهما ﴿أَنْتَ وَلِيي﴾ معيني ﴿فِي الْدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا﴾ أي: اقبضني إليك ﴿وَأَلْحِقْنِي﴾ [يوسف: ١٠١] بآبائي الصالحين أي الأنبياء. وإنما تمنَّى الموت لأنه خاف من تغير الحال، فتوفاه الله طيبًا طاهرًا.
وحكى الثعلبي عن يزيد الرَّقاشي عن أنس بن مالك عن رسول الله ﷺ قال: "لما جَمَع اللهُ ليعقوبَ شَمْلَه، خَلا وَلَدُهُ نجيًّا فقال بعضُهم لبعضٍ: أليسَ قد عَلِمتُم ما صَنَعتُم وما لقيَ منكُم الشَّيخُ يعقوبُ ويوسفُ؟ قالوا: بلَى، قالوا: فإن عَفَوَا عنكُم فكيفَ لكُم بربِّكم؟ فاستَقَام أمرُهُم على أَنْ يأتُوا الشَّيخَ يعقوبَ، فأَتَوه فجلَسُوا بينَ يدَيهِ ويوسفُ إلى جانبِهِ فقالوا له: يا أَبانا أَتينَاك في أمرٍ لم نأتِكَ في مثلهِ قطٌّ، ونزل بنا أَمرٌ لم يَنزِلْ بنا مثلَه قطُّ، حتَّى حرَّكوهُ؛ لأنَّ الأنبياءَ أرحَمُ البريَّة، فقال: ما لكُم يا بَنِيَّ؟ قالوا: أَلَستَ قد عَلِمتَ ما كان منَّا إليكَ وإلى أخِينا؟ قال: بلى، قالوا: أَفَلَستُما قد عَفَوْتُما؟ قالا: