للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فقال لهم: إنِّي ابتُليت بهذا البلاءِ فأَشيروا عليّ، فعدَّ الخلافةَ بلاءً، وعَدَدتَها أنت وأصحابُك نعمة، فقال له سالم: إنْ أردتَ النجاةَ من عذاب الله، فليكن كبيرُ المسلمين عندك أبًا وأوسطُهم أخًا وأصغرهم ولدًا، فوقِّر أباك وأَكرِم أخاك وتحنَّن على ولدك (١)، وقال له رجاء: إنْ أردتَ النجاةَ من عذاب الله، فأحبَّ للمسلمين ما تحبُّ لنفسك، ثم مُتْ إذا شئت، وإنِّي أخاف عليك أشدَّ الخوفِ يومًا تَزِلُّ فيه الأقدام، فهل معك رحمك اللهُ ممَّن يشير عليك بمثلِ هذا (٢)؟ فبكى هارونُ بكاءً شديدًا حتى غُشي عليه.

قال الفضل: فقلت: يا أبا عليّ، اُرفُق بأمير المؤمنين، فقال: يا ابنَ الربيع، تقتلُه أنت وأصحابُك وأَرفُقُ به أنا؟ ثمَّ أفاق وقال له: زِدني رحمك الله، فقال: بلغني أنَّ عاملًا لعمرَ بنِ عبد العزيزِ شكي إليه منه، فكتب إليه عمرُ يقول: أمَّا بعد، فإني أذكِّرك طولَ سهرِ أهل النارِ مع خلودِ الأبد، وإيَّاك أن يُنصرفَ بك غدًا من بين يدي اللهِ تعالى، فيكون آخرَ العهدِ وانقطاعَ الرجاء، والسلام. فلمَّا قرأ عاملُه الكتابه، طوى البلادَ حتى قدم على عُمر، فقال له: ما الذي أَقدمك؟ فقال: خلعتَ قلبي بكتابك، لا عُدتُ إلى ولايةٍ حتى ألقَى الله تعالى.

فبكى هارونُ بكاءً شديدًا ثم قال: زدني رحمك الله، فقال: إنَّ العباسَ عمَّ رسولِ الله سأل رسولَ اللهِ فقال: أمِّرني على إِمارة، فقال له النبيُّ "إنَّ الإمارةَ حَسْرةٌ ونَدامةٌ يومَ القيامة، فإن استطعتَ ألا تكونَ أميرًا فافعل" (٣). فبكى هارونُ بكاءً شديدًا، ثم قال: زدني، فقال: يا حسنَ الوجه، أنت الذي يسألك اللهُ غدًا عن هذا الخَلقِ يومَ القيامة، فإن استطعتَ أن تقيَ هذا الوجه من النار فافعل، وإيَّاك أن تُمسيَ وتصبحَ وفي قلبك غشٌّ لأحدٍ من رعيَّتك؛ فإنَّ النبيَّ قال: "مَن أصبح لهم غاشًّا لم يَرَحْ رائحةَ الجنة" (٤). فبكى هارونُ وقال له: زدني، فقال: لو سألتَ جميع مَن معك أن يحملوا


(١) في المصادر أن هذا كلام محمد بن كعب، وقد جعله المصنف من كلام سالم؟!
(٢) في (خ): بمثل هارون، والتصويب من المصادر.
(٣) أخرجه ابن أبي شيبة (٣٣٢١١) والبيهقي ١٠/ ٩٦ عن محمَّد بن المنكدر مرسلًا بلفظ: "يا عباس، يا عم رسول الله، نفس تنجيها خير من إمارة لا تحصيها" وأخرجه البيهقي أيضًا موصولًا عن ابن المنكدر عن جابر ، وصحح المرسل.
(٤) أخرجه البخاري (٧١٥٠) و (٧١٥١) ومسلم (١٤٢) من حديث معقل بن يسار .