قال سفيان: فأتينا الفُضيل، فأَبلغته ما قال، فقال: إنَّه يُحسن العقلَ لولا ما مُني نه من فتنة هذه العاجلة، وإني لَيسرُّني أن ألقاه ويسوءُني أيضًا، أمَّا ما يسرني من لقائه؛ فلِمَا أرجو أن يكونَ فيه بعض [فائدة](١) كنجاته عن غَيِّه، وأمَّا ما يسوءُني، فإنِّي لم أرَ مثلَه يرفلُ في سوابغ النعم وهو عُريان من الشُّكر، ثم قطَّب بين عينيه وقال: وما قَدرُ مَن كان عاصيًا لله حتى أراه، لا حاجةَ لي في لقائه.
قال: فلم أزل أَرفُق به حتى أَذِن، فأخبرتُ هارون، فجاءَ ومعه مسرور، فدخلنا ووقف مسرور بالباب، وسلَّم هارون، فوجد منه رائحةَ المسك، فقال: اللهمَّ إنَي أسألك رائحةَ الخلدِ التي أَعددتَها لأوليائك المتَّقين في جنَّات النَّعيم، ثم تَبادَرَت دموعُه على لحيته وهارونُ واقف، فقلت: يا أبا عليّ، هذا أميرُ المؤمنين واقفٌ يسلِّم عليك، فرفع رأسَه وقال: وإنَّك لَهُوَ يا حسنَ الوجه؟ قال: نعم، قال: اِعلم أنَّ الأحكامَ قد سُلبت فضيلةَ العدل، وظهر في المِلَّة عدوان الأميرين، والكلُّ في صحيفتك يُدْرَج معك في كَفَنك إلى يوم النّشور.
ثم نهض واستقبل القِبلةَ وقال: اللهُ أَكبر، فقلت: يا أميرَ المؤمنين، أمَّا إذا دخل في الصَّلاة، فليس فيه لأحدٍ مَطْمَع. وخرجنا، فقال لي هارون: لولا خَجَلي منك لقبَّلتُ ما بين عينَيه، فقلت: لَوددت واللهِ أنَّك فعلت ذلك.
وقيل: إنَّ هارونَ لمَّا دخل على الفضيل، قال لابن عُيينة: مَن هذا؟ قال: هو من بني هاشم، وكان ابنُ عيينةَ قد قال لهارون: إنْ علم بك لم يأذنْ لك في الدُّخول عليه، فلمَّا وجد منه رائحةَ الطِّيب عرفه، ثم قال الفضيل: حدَّثني عُبيدٌ المُكْتِب عن مجاهدٍ في قوله تعالى: ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ [البقرة: ١٦٦]، قال: هي القراباتُ والمَودَّات التي كانت بينهم في الدّنيا، فبكى هارون.
ولمَّا امتنع الفضيلُ من قَبول المال، قال له هارون: يا أبا عليّ، ما أَزهدك! قال: أعرف مَن هو أزهدُ مني، قال: ومَن هو؟ قال: أنت، قال: ولِم؟ قال: لأنِّي أنا زهدتُ في دنيا فانية، وأنت زهدتَ في الأُخرى الباقية.
(١) زيادة يقتضيها السياق، وانظر مناقب الأبرار ١/ ٤٧.