للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فطيف به في كُوَرخُراسان، فقال [شاعرٌ من أهل خراسان] (١): [من السريع]

أصبحت الأمَّة في غِبطةٍ … من أمر دنياها ومن دينها

إذ حفظت عهدَ إمامِ الهدى … خيرِ بني حوَّاءَ مأمونِها

من أبيات، ولقَّب الفضلَ بن سهل ذا الرِّياستين، وفوَّض إليه أمورَه.

وقال جبريلُ بن بختيشوع: سمعت المأمونَ يقول: كان لي بخُراسان يومٌ عجيب، فأَولاني اللهُ فيه جميلًا؛ وذلك لأنَّه لَمَّا توجَّه طاهر بن الحسين للقاء عليِّ بن عيسى بن ماهان، على ما عرفتم من ضعف طاهرٍ وقوَّة ابن ماهان، فوقع في نفس عسكري أنَّ طاهرًا ذاهب، وأنَّ ابن ماهانَ هو الغالب، ولحق عسكري إضاقةٌ شديدة، ونفذ ما كان بيدي، فلم يبق معي قليل ولا كثير، ولم أدرِ إلى أين أهرب، ولا إلى أين أجدّ، وكنت نازلًا في دار أبوابُها من حديد، ولي فيها مُسْتَشْرَفٌ أقعد فيه، وعددُ غلماني ستةٌ (٢) لا أملك غيرهم، فشَغَب الجندُ والقوَّاد، وطلبوا أرزاقهم، ووافَوا باب الدارِ يشتموني شتمًا قبيحًا، وكان الفضلُ بن سهل جالسًا عندي، فأمر بإغلاق الأبواب، وقال لي: قم واصعد إلى المستشرف، فقلت: وما ينفعني وهم يهجمون عليّ؟! فقال: قم واصعد، هو الله ما تنزل إلَّا خليفة، فجعلت أهزأ به، وطلبت أهرب من بعض الأبواب، فلم أجد سبيلًا، فقال: قم فاصعد، فصعدت، فلما علم الجندُ بصعودي ازدادوا شتمًا وسبًّا، فقلت للفضل: أنت الذي غَرَرْتَني بالصعود ولم تدعْني أعمل برأي، فقال: واللهِ ما تنزل إلَّا خليفة، فازداد غيظي.

ونقبوا الجندُ الجدار، وجاؤوا بالشوك وأَحرقوا بعضَ الدار، ووصلت النارُ إلي، وخفت من الحريق، وهممت أن أُلقيَ نفسي بينهم لعل إذا رأوني يستحيون مني، وجعل الفضل يقبِّل يدي ورِجلي ويقول: واللهِ ما تنزل إلَّا خليفة، والاسطرلابُ بيده، فلما اشتدَّ الأمر واستحكم الناس، قال لي: أتاك الفَرَج، أرى في الصحراء شيئًا قد أقبل ومعه فَرَجُنا فازددت غيظًا، وإذا بذلك الشيءِ قد قرب وهو يصيح: البشارة لي، قُتل عليُّ بن عيسى، وهذا رأسُه معي في المِخْلاة، فلمَّا رأى الجندُ ذلك سكنوا وخجلوا،


(١) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري ٨/ ٤١١.
(٢) في الفرج بعد الشدة ٢/ ٣٥١: ستة عشر غلامًا.