للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقال محمَّد بنُ عبدوس (١): لما ظفر المأمونُ بإبراهيم، حبسه عند أحمدَ بن أبي خالد، فلم يزل عنده في أَزَج (٢)، فقال إبراهيم: الحمدُ لله الذي منَ عليَّ بحبسي في دارك ولم يبتلِني بغيرك، فكشر أحمدُ في وجهه وقال: يَا إبراهيم، أتظنُّ أن أميرَ المُؤْمنين لو أمرني بضرب عُنقِك أكان يسعني مخالفتُه؟! وكان عند أحمدَ وجوهُ أهلِ خُراسان، فعظم قولُه على الحاضرين، وتغيَّرت وجوهُهم إنكارًا على أَحْمد، فبكى إبراهيمُ وقال: يَا ابنَ أبي خالد، إن قتلني المأمونُ كان غيرَ ملوم، وإني لم أَحمد ربِّي لحُسن ظنِّي بك، ولكن لعلمي أنَّ للمأمون خزنةَ سيوفٍ وخزنةَ أقلام، فحمدت ربِّي على ما منَّ به عليَّ من إِحلالي عند مَن يسائلني لا عندَ مَن يعاجلني.

فأشرقتْ وجوهُ القوم وأُعجبوا بما كان من إبراهيم، وقال أَحْمد: النَّاس يتكلَّمون على قدر نفوسِهم وأمانهم، وكلامُك على قدرك وقدرِ المهديّ، وكلامي على قدري وقدرِ جدِّي يزيدَ الأحول، وأنا أستقيلك ممَّا بدا مني، فأقِلْني أقال اللهُ عثرتَك، وسقَل أمرك، وأَحسن خَلاصَك. فدعا له إبراهيمُ وأقاله.

قال إبراهيم: فلمَّا مضى لي في داره خمسٌ وخمسون ليلة، أخرجني نصفَ الليل على دابَّة وجاء بي إلى ما بين الجسرِ والخُلد (٣)، فأوقفني هناك، وعاد وهو يركض وقال: يَا [إبراهيم] (٤) أميرُ المُؤْمنين يقول لك: أما كفاك توثُّبك عليَّ وفعلُك السابقُ حتَّى وثب عليَّ ابنُ عائشةَ والإفريقي، وأحوجتَني إلى قتلهما وقتلِ مَن قتلتُ معهما في هذه الليلةِ بالمُطبق! وأنا لاحقُك بهما إن لم تحتجَّ بحجَّة.

فعلمت أنَّه قد غلب عليه السُّكر، وأني أَحتاج إلى مداراته، فقلت: يَا أَبا العباس، الله الله في دمي، فإنَّه في عنقك، فاتقِ اللهَ في حقنه، فإنَّه أن تؤدِّيَ ما تسمعه مني. فقال: عليَّ عهدُ الله وميثاقُه أن أؤديَ إليه ما تقول، قلت: تقول له: استترتُ عنك وأنت خارجَ البلد ومعي عالمٌ من النَّاس، وأنا اليومَ أسير في سرداب أَحْمد! كيف أُوثب عليك!


(١) قاله في كتابه "الوزراء" كما في الفرج بعد الشِّدَّة ٣/ ٣٢٩ - ٣٣٢.
(٢) ضرب من الأبنية. القاموس المحيط (أزج).
(٣) قَصْرٌ بناه المنصور ببغداد بعد فراغه من مدينته على شاطئ دجلة. معجم البلدان.
(٤) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق.