للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فلمَّا قرب عبد الله (١) بن طاهر استوحشتُ من المقام خوفًا على نفسي، ورأيتُ تسليم نفسي عارًا عليّ، فأقمتُ مستسلمًا للأقدار، وأقمتُ جاريةً سوداء في أعلى الحصن، فلم ترعني إلَّا وهي تشهرُ بيدها، وإذا بباب الحصن يدقّ، فخرجتُ وإذا بعبد الله بن طاهر واقفٌ وحدَه، قد انفردَ عن أصحابه، فسلَّمت عليه سلامَ خائفٍ، فردَّ عليَّ ردًّا جميلًا، فأومأتُ لأقبِّل ركابَه، فمنعني بألطف منع، ثم ثنى رجلَه وجلسَ على دكَّةٍ على باب الحصن، ثمَّ قال: سكِّن روعَك، فقد أسأتَ بنا الظنَّ، وما علمنا أنَّ زيارتنا لك تروِّعك، ثمَّ سألني عن مقامي في البَرِّ، وإيثاري له على الحضر، وباسطَني، فلمَّا زال رَوعي قال: أنشدني قصيدتَك التي تقولُ فيها:

يا ابن بيت النارِ موقدُها

فقلت: لا تنغِّص إحسانَك، فقال: ما قصدي إلَّا زيادة الإنسِ بك، فامتنعت، فقال: والله لا بدّ، فأنشدتُه القصيدة إلى قوله:

ما لحاديه سراويل

فقال: والله لقد أحصينَا ما في خزائن ذي اليمينين بعدَ موته، فكان فيها ثلاثة آلاف سراويل (٢) من أصناف الثياب، ما في واحدٍ منها تِكَّةٌ، فما حملك على هذا؟ قلت: أنتَ حملتني بقولك:

وأبي من لا كِفَاءَ له … من يساوي مجدهُ قولوا

لما فَخَرْتَ على العرب فَخَرْنا على العجم، فقبل العذرَ، وأظهر العفو، ثمَّ قال: هل لك في الصحبة إلى قتال نصر بن شبث؟ فاعتذرتُ بالعجز عن الحركة ولزومِ المنزل، فأمر بإحضار خمسة مراكب من مراكبه بسروجها ولُجُمِها، محلاةً بالذهب، وثلاثة دوابّ من دوابِّ الشاكريَّة، وخمسة أبغل من بغال الثقل، وثلاث تخوتٍ من الثياب الفاخرة، وخمس بِدَر من الدراهم، ووضع الجميعَ على باب الحصن، واعتذرَ بالسفر فمددتُ يدي لأقبِّل يدَه، فامتنعَ، وسار، فودَّعتُه، وكان ما أعطاهُ يساوي مئة ألف درهم.


(١) في (خ) و (ف): يحيى. وهو خطأ.
(٢) في الفرج بعد الشدة ١/ ٣٤٩: ألفين وثلاث مئة سراويل.