للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فأمر المتوكِّل بحبسه في المُطْبِق، ثمَّ لما دخل عليه قال له: بلغَني أنَّك تناظرُ في العظمة وتنافس في القدرة، وأنك قدريّ، فقال: يا أمير المؤمنين، ما لعقلٍ مولود، في جسمٍ مكدود، يتكلَّم في قدرة القادر المعبود، فرقَّ له المتوكل وقال: يا شيخ عظني، فقال: من أصلحَ سريرتَه أصلح الله علانيتَه، ومن أصلحَ ما بينه وبين الله أصلحَ ما بينه وبين الناس، فبكى المتوكِّلُ وعرضَ عليه ما لا، فلم يقبلهُ، وسألَه المقام (١) عنده، فأبى فردَّه إلى مصر مكرمًا، وكان إذا ذُكر عنده أهلُ الورع يبكي ويقول: حيّ هلا بذي النُّون.

وقال ذو النون: من أراد أن يتعلَّم الظَّرفَ والمروءةَ، فعليه بُسقَاة الناس ببغداد، ومن أرادَ أن يسمعَ تجريد التوحيد وخالصَ التوكُّل، فعليه بالنساء الزَّمْنى ببغداد، قيل له: وكيف؟ قال: لمَّا حُمِلتُ إلى بغداد مرَّ بي على باب الطاق (٢) مقيدًا، فمرَّ بي رجل متَّزِرٌ بمنديلٍ مصريّ، مُتَعمِّمٌ بمنديلٍ دَبِيقيٍّ، بيده كيزان خزف جدد رفاع، فقلت: هذا ساقي السلاطين؟ قالوا: لا، بل ساقي العامة، فأومأتُ إليه: أن اسقني، فجاء إليَّ وسقاني، فشَمِمْتُ من الكوز رائحةَ المسك، فقلت لمن معي: ادفع إليه دينارًا (٣)، فأعطاهُ دينارًا، فلم يأخذه، فقلت: لعلك استقللتَه، فقال: لا والله، ولكنَّك أسير، وليس من المروءة الأخذُ من أسير، فقلت: هذا قد كَمُل ظرفه.

فسمعتُ إنسانًا من ورائي يقول: يا شيخ، فلم لم تتظرف (٤) عن الحال التي أوجبت فيك ما أرى؟ فالتفتُّ فإذا بامرأةٍ زَمِنةٍ في كوخٍ تتصدَّق، فقلت لها: أنا مظلوم، فقالت: إذا دخلتَ على هذا الرجل فلا تهبه، ولا ترَ أنَّه فوقك، فإنَّما أنتما مخلوقان من طينةٍ واحدة، وهو فقيرٌ إلى ما أنتَ إليه فقير، فلا تحتجَّ لنفسك محقًّا كنت أو متهمًا، قلت: ولم؟ قالت: إن هبتَه سُلِّطَ عليك، وإن احتججتَ لنفسك زاد ذلك وبالًا؛ لأنك إن كنتَ متَّهمًا تباهتُ الله فيما يعلمه منك، وإن كنتَ بريئًا فادعُ (٥) الله ينتصر لك، ولا


(١) إلى هنا نهاية الورقة الساقطة من (ف).
(٢) كذا في (خ) و (ف). وفي تاريخ بغداد ١/ ٣٥٣ - والقسم الأول من الخبر فيه- ومناقب الأبرار ١/ ١١٥: رُمي بي على باب السلطان.
(٣) في (خ) و (ف): إلي دينار. والمثبت من تاريخ بغداد ومناقب الأبرار.
(٤) كذا في (ف)، وفي (خ): تنطرف. وفي مناقب الأبرار ١/ ١١٥: تتصرَّف.
(٥) في (خ): فدع.