للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

العالم، فاسمعوا منه، فأقبلوا على السماع منه حتى ظهرَ الخللُ في مجالس محمد بن يحيى، فقال لهم: قد بلغني أنه يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، فامتحنُوه، فقامَ إليه رجلٌ من المحدِّثين فقال: يا أبا عبد الله، ما تقول في اللفظ بالقرآن، مخلوقٌ أو غير مخلوق؟ فقال البخاريُّ: كلامُ الله غير مخلوفٍ، وأفعالُ العِباد مخلوقة (١)، قال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ (٢)، فحركاتهم وأصواتُهم وكتابتهم مخلوقة، فصرَّح بأنَّ اللفظَ بالقرآن مخلوق (٣)، فشغبوا به وهجروه.

وبلغ محمد بن يحيى فقال: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق. فقد ابتدع، ولا يجالسُ ولا يُكَلَّم، ومن ذهب إلى البخاري بعدَ هذا فاتَّهموه، فإنّه لا يحضرُ مجلسَه إلا من هو على مثل هذا (٤).

فخرج البخاريُّ إلى بُخارى، وترك نَيسابور، فلمَّا دخلَ بُخارى، أرسلَ إليه أميرُها خالد بن أحمد الذهلي: احمل إلينا "الجامع" و"التاريخ" وغيرهما (٥) لنسمعَها عليك، فقال البخاريُّ لرسوله: أنا لا أذلُّ العلم وأحملُه إلى أبواب الناس، فإنْ أرادَ السماع فليحضر إلى مسجدي، وإن لم يعجبه فيمنعني من الحديث؛ ليكون في عذرٌ عند الله يوم القيامة، فكان ذلك سببًا للوحشة بينهما، فاحتال عليه الوالي حتَّى أخرجَه من بُخَارى، فنزل قريةً من قرى سمرقند يقال لها: خَزتَنْك، على فرسخين منها، وله أقارب بها.


(١) انظر الخبر بتمامه في تاريخ دمشق ٦١/ ٩٢.
(٢) في تاريخ دمشق ٦١/ ٩٣ بإسناده إلى الفربري قال: سمعت البخاري يقول: أما أفعال العباد مخلوقة، فقد حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا مروان بن معاوية، حدثنا أبو مالك، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة قال: قال النبي : "إن الله يصنع كل صانعٍ وصنعته"، وتلا بعضهم: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾.
(٣) لم يصرح البخاري بهذا القول، وكذَّب من نسبه إليه، فقال -كما أخرجه ابن عساكر في تاريخه ٦١/ ٩٦ - : من زعم أني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب.
وقال الذهبي في السير ١٢/ ٤٥٧: المسألة هي أن اللفظ مخلوق، سئل عنها البخاري، فوقف فيها، فلما وقف واحتجَّ بأن أفعالنا مخلوقة، واستدلَّ لذلك، فهم منه الذُّهْلي أنه يوجه مسألة اللفظ، فتكلم فيه، وأخذه بلازم قوله هو وغيره.
(٤) تاريخ بغداد ٢/ ٣٥٤.
(٥) في (خ) و (ف): وكتبها، والتصويب من تاريخ بغداد ٢/ ٣٥٥، وتاريخ دمشق ٦١/ ٩٧.