للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كلام الله جميعَ أمور الدُّنيا، وقد قيَّض الله لنا هذه البريَّة؛ نسيح بها، ونشرب من ماء هذه البحيرة، ونأكل من هذه الثمار.

قلت: فكم بيني وبين المكان الذي فارقتُ فيه أصحابي؟ فتبسَّم بعضُهم، وقال: يَا أَبا إسحاق، لله أسرار وعجائبُ، إنَّ هذا المكان الذي أَنْتَ فيه لم يَحضره آدميٌّ قبلك إلَّا شابٌّ من أصحابكم السيَّاحين، وصل إلى ها هنا فتوفِّي، وذاك قبرُه على شاطئ البحيرة وحوله رياحين، كنَّا ليلةً قعودًا على جانب البحيرة نتذاكر المحبة، فإذا بشابٍّ قد وقف علينا، فسلَّم، فرددنا عليه السلام، وقلنا: مِن أين؟ قال: من نَيسَابُور، قلنا: ومتى خرجتَ منها؟ قال: منذ سبعة أيام، أزعَجتْني آية وهي قوله تعالى: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾ [الزمر: ٥٤] قال: فقلنا [له:] فما معنى الإنابةِ والتسليم والعذاب؟ فقال: أما الإنابة: أن ترجع منك إليه (١)، وأمَّا التسليم: فالاستسلام له، وأمَّا العذاب: فعذاب الفراق، ثمَّ صاح ومات، فوارَيناه.

قال إبراهيم: فقمتُ إلى قبره وإذا عند رأسه طاقَةُ نَرْجِس كأنَّها رَحَى [عظيمة] وعلى القبر مكتوب: هذا حبيب الله قَتيلُ العَبْرة (٢)، وعلى وَرَقةٍ منها مكتوب: هذه صفةُ الإنابة، فسألوني أن أفسِّر لهم ما على ورقة النَّرْجِس مكتوب، ففسَّرتُه، فوقع الطَّرب فيهم، فأُلقي عليَّ النُّعاس، فنمتُ، وانتبهتُ وإذا أنا قريبٌ من مسجد عائشة ، وإذا في وطائي طاقةُ نَرْجِس أو رَيحان، فبقيتْ معي سنة لم تتغيَّر، ثمَّ فقدتُها.

[ذكر قصَّته مع الشاب وأخته:

حكاها عنه في "المناقب" أَيضًا] قال: تهتُ في البادية عن الطريق -وكانت ليلةً مُقمرة- فلَجَجتُ في البريَّة، وإذا بصوتٍ ضعيف يقول: إلي يَا أَبا إسحاق إليَّ، فإنِّي سأَلتُ الله أن يُحضِر وفاتي وليًّا من أولياء الله (٣)، وأرجو أن يكون قد فعل.

[قال:] فجئتُ إليه، وإذا بشابٍّ من أحسن الشباب، مَطروحٍ وحوله رياحين كثيرة، فسلَّمتُ عليه فقال: مرحبًا بك يَا أَبا إسحاق، فقلت: من أين أَنْتَ؟ فقال: من شِمْشاط، كنتُ بين أهلي في عزٍّ ورفاهيةِ عيش، فخطر بقلبي السَّفَر، فخرجتُ، وقد


(١) في مناقب الأبرار ١/ ٤٧٩: أن يرجع بك إليه.
(٢) في مناقب الأبرار: المغيرة.
(٣) في (ف م ١): أن يحضر وقت وفاتي وليًّا من أوليائه، والمثبت من (خ).