بالذي أَقْدَرَكَ عليَّ إلّا ما رحمتني، فقال: وَيحك إنَّ نبيَّ الله قد آلى أنْ يُعَذِّبك عذابًا شديدًا فقال: وما استثنى؟ قال: بلى، قال: ﴿أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ وجاء فوقف بين يدي سليمان خاشعًا ذليلًا فتواعده بالعذاب، فقال له: اذكر وقوفك بين يدي الله أذلَّ من وقوفي بين يديك، فانتفض سليمان من خَشية الله تعالى ثم قال له: أين كنت؟ قال: ﴿أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ [النمل: ٢٢]. قال ابن عباس. ومعنى ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيد﴾ [النمل: ٢٢]، أنه غاب عنه من الظهر إلى العصر، قال مقاتل: ومعنى ﴿أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ أي علمتُ بما لم تعلم مع عظيم سُلْطانك وحقارتي.
فإن قيل: فمن أين للهدهد هذا الإقدام على مثل سليمان؟ فالجواب من وجوه: أحدها: أنه لما قيل له إنَّ سليمان قد توعَّدك قال: أما قوله: ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ﴾ فتهديد مَلِك، والحلمُ أحسن. وأما قوله: ﴿أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ﴾ فقول من لم ينظر في العواقب ﴿أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ سؤال لازم يقتضي الجواب وهو على ﴿أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾. فقيل له: كيف تجاسر الهدهد على هذا؟ فقال: وهو الثاني: إنّ الهدهد كان مُحِقًّا والمحقُّ ما يخاف.
والثالث: إنه قول مستقبل والمستقبل لا يلتفت إليه.
والرابع: أنه شغله بحديث يحتاج إلى فكرة ورويَّة، وفي تلك المدة يسكن الغضب، ألا ترى إلى قوله: ﴿سَنَنظُرُ﴾.
والخامس: أنه شغله بذكر الزوجة ﴿إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ﴾ [النمل: ٢٣] فكأنه يقول: إنْ لم تكن بك رغبة في تزويجها فارغب في مالها بطريق الاستيلاء، ومهما حصل لك من القسمين فهو فدائي من القتل.
والسادس: اشتغلْ عن قتل عاجز بين يديك بذكر عجزك عن قادر يقتدر عليك.
والسابم: أنا مؤمن وقومُها وهي كفار، فاشتغل بقتلهم عن قتلي. ﴿وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [النمل: ٢٤] فاشتغلْ بقتل من يسجد لغير الله عن قتل من يسجد لله.
والثامن: أنَّ الأنبياء إنما بُعثوا بالعدل، ومن العدل أن تكون العقوبة على قدر