للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يَنوح على نفسه ويبكي ويقول: يدٌ خَدمْتُ بها الخِلافةَ ثلاثَ دَفْعات لثلاثة من الخلفاء، وكتبتُ بها القرآن دَفْعتَين، تُقطَع كما تُقْطَع أيدي اللُّصوص؟

ثم قال: أتذكُرُ وأنت تقول لي: [إنك] في آخر نَكْبة، ولعلَّ الفَرج قريب؟ قلتُ: بلى، قال: فقد ترى ما حلَّ بي، فقلتُ: ما بقي بعد هذا شيء، وينبغي أن تتوقَّع الفَرَج، فإنَّه قد عُمل بك ما لم يُعمَل بنَظيرٍ لك، وهذا انتهاءُ المَكروه، ولا يكون بعد الانتهاء إلا الانحطاط. فقال له: لا تغفل، فإنَّ المِحْنةَ قد تشبَّثت بي تشبُّثًا يَنْقُلُني من حالٍ إلى حال، إلى أنْ تؤدِّيني إلى التَّلَف، كما تتشبَّث حمَّى الدِّقِّ بالأعضاء، فلا تفارقُ صاحبها [حتى] تُؤدِّيه إلى التَّلَف، ثم تمثَّل: [من الوافر]

إذا ما مات بعضُك فابْكِ بعضًا … فبعضُ الشَّيء من بعضٍ قريبُ

فكان الأمرُ كما قال؛

لمَّا قَرُب بَجْكَم من بغداد قطع ابن رائق لسانَه، وبقي في الحبس مدةً طويلة، ثم لَحِقه ذرَبٌ ولم يكن عنده مَن يَخدُمه، فبلغني أنَّه كان يَستقي الماء بيده اليُسرى، ويَجْذِبُ الحَبْلَ ويُمْسِكه بفيه، ولحقه شَقاءٌ عظيم إلى أن مات بدار الخليفة.

ثم سأل أهلُه بعد مدة في تسليمه إليهم، فنُبِش وسُلِّم إليهم، فدفنه ابنه أبو الحسين في داره في مُرَبَّعَة أبي عبد الله (١)، ثم أحبَّت زوجتُه أنْ تَدفُنَه في دارها، فنُبش وحمل إلى دارها في قصر أمِّ حبيب، فدُفن هناك (٢).

[قال ثابت:] ومن العجائب أنَّه كان يُراسل الراضي من الحبس بعد قطع يده، قبل أن يقطع لسانه، ويُطمعه في المال الَّذي وعدَه أنَّه يُصَحِّحه له، ويقول: إنَّ قَطْعَ يده ليس مما يَمنعُه أنْ يَستوزره؛ لأنَّه يُمكنه أن يوقِّع بحيلة يحتالها [أو بيده اليسرى، وكان يَشُدُّ القلمَ على ساعده الأيمن، ويكتب بيده اليسرى]، فلمَّا علم ابن رائق أنَّه يسعى بلسانه في التدبير عليه قطعه (٣).


(١) في (ف م ١): أي عبيد الله.
(٢) ثمار القلوب ٢١٠ - ٢١١ وما بين معكوفين منه.
(٣) في (خ): ابن رائق قطع لسانه، والمثبت من (ف م ١) وما بين معكوفين منهما.