للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وجاءت كتب أبي تَغْلب إلى عزِّ الدولة بما يُطَيِّب قلبَه، وضرب الله عز الدولة ببَلْوى كان فيها أعظم الفَضيحةِ له؛ وذلك لأنه أُسِر بالأهواز في الوَقْعة غلامٌ له تركيّ يقال له: باتكين، لم يكن قبل بأَحْظى غِلمانه عنده، ولا بأقربهم منه (١)، فجُنَّ عليه جُنونًا عظيمًا، وحَزِن لفَقْده حُزنًا شديدًا، وتسلَّى عن كلِّ شيءٍ خرج عن يده إلا عنه، وحَدث له من الوَجْدِ به ما أزاله عن تماسُكه، فاطَّرح القَرار والهدف (٢)، وامتنع من الطعام والشّراب، وانقطع إلى البكاء، واحتجب عن الناس، وكان إذا وصل إليه وزيرُه أو خواصُّه أخذ في الشَّكوى، وقَطَعهم عما جاؤوا فيه، فاستَعْجزَ الجُندُ رأْيَه واطَّرحوه، وقالوا لابن بقية: دَبِّر أنت الأمور، ودع هذا ونحن معك، فاستهان بعز الدولة واطَّرحه.

وحمل عز الدولة ما كان في نفسه من الغلام على أن كاتب عضد الدولة قبل أن تَضعَ الحربُ أوْزارَها، وتَستقرَّ الأمورُ قرارَها، يسألُه ردَّ الغلام عليه، وكتب إلى خواصِّه المُطْبِقين به يسألُهم مَعونَتَه على ما رَغِب إليه، فافتُضح بين الناس، وعاتبه الأقاربُ والأباعد فما ارعوى، وبعث الشّريفَ أبا أحمد الحسين بن موسى رسولًا في هذا الأمر، وبذل في فِديةِ الغلام جاريتين عَوَّادَتَين (٣) مُحَبَّبتين كانتا نَشأتا عنده، لم يكن ببغداد أبْرَع منهما، ولا أحْذَق بالصّناعة -وكان أبو تَغْلب قد بَذَل له فيهما مئتي ألف درهم، فأبى أن يَبيعهما- وقال للشريف: لا تتوقَّف في زيادة، ولا تفكِّر في شيء؛ فقد رضيتُ أن آخُذَ الغلام وأمضي إلى أقصى الأرض.

فجاء الشريف إلى عضد الدولة، وأدَّى الرسالة، وكان الغلام قد اختلط مع الغلمان في يوم الوَقْعة، وبعث به عضد الدولة إلى شيراز إلى ولده أبي الفوارس، فلما علم عضد الدولة بغَرام عز الدولة بالغلام كتب إلى ولده يأمره برَدِّه وإعطاءه للشريف، وأخذ عَضُد الدولة الجاريتين.


(١) انظر تكملة الطبري ٤٥٥، والمنتظم ١٤/ ٢٤٧، والكامل ٨/ ٦٧٣، وتاريخ الإسلام ٨/ ١٨٧، والنجوم الزاهرة ٤/ ١٢٦.
(٢) كذا، وفي الكامل: وامتنع من لذاته والاهتمام بما رفع إليه من زوال ملكه وذهاب نفسه.
(٣) تضربان على العود.