وخوفًا وجوعًا؛ للفتن التي اتصلت بها بين السُّنَّة والشيعة -فقال عضد الدولة: آفة هؤلاء القُصَّاص، يُغْرُون بعضَهم ببعض، ويُحرِّضون على سفك دمائهم. فنادى في البلدان: لا يَقُصُّ أحدٌ في جامع ولا في طريق، ولا يتوسَّلْ أحدٌ بأحدٍ من أصحاب رسول الله ﷺ، ومن أحب التَّوسُّلَ ففي قراءة القرآن، ومن خالفَ أُبيحَ دمُه. فرُفِعَ إليه أنَّ ابن سَمعون جلس إلى يوم الجمعة على كرسيِّه بجامع المنصور، وتكلَّم على الناس. قال شُكْر: فأمرني أن أبعَثَ إليه من يُحضِرُه ففعلتُ، فدخل عليَّ رجل له هيبة وعلى وجهه نورٌ، فلم أملِكْ أن قمتُ إليه وأجلستُه إلى جانبي، فلم يُنكِر ذلك، وجلس غيرَ مُكترِثٍ، وأشفقتُ -والله- أن يجريَ عليه مكروة على يدي، فقلت: أيها الشيخ، إنَّ هذا الملِكَ عظيم، وما كنتُ أوثرُ مخالفةَ أمرِه، وتجاوزَ رَسْمِه، والآن فأنا موصِلُكَ إليه، فكُلَّما تقع عينُكَ عليه فقبِّلِ التُّراب، وتلطَّفْ في الجواب إذا سالكَ، واستعِنْ بالله عليه، فعسى أن يُخلِّصَكَ منه، فقال: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ (١)[الأعراف: ٥٤].
ومضيتُ به إلى حجرةٍ في الدار قد جلس فيها الملك منفردًا خِيفةَ أن يجري من أبي الحسين بادرةٌ بكلام غليظ، فتسير به الرُّكبان، فلمَّا دنَوْتُ من الحجرة أوقفتُه وقلت: إياكَ أن تبرَحَ من مكانك حتى أعودَ إليك، وإذا سلَّمتَ فَلْيكُنْ بخشوع وخضوعٍ.
ودخلتُ لأستأذنَ له، فالتفتُّ وإذا به واقف إلى جانبي قد حوَّل وجهه نحو دار بختيار، واستفتح فقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢)﴾ [هود: ١٠٢]، ثم حوَّل وجهه إلى الملك وقال: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيفَ تَعْمَلُونَ (١٤)﴾ [يونس: ١٤]، وأخَذَ في وَعْظِه، فأتى بالعجب، فدمعَتْ عينُ الملك، وما رأيتُ منه ذلك قطُّ، وترك كُمَّه على وجهه، وتراجع أبو الحسين فخَرَجَ ومضى إلى حجرتي، فقال الملك: امْضِ إلى بيت المال، وخُذْ ثلاثةَ آلاف درهم، وخُذْ من خزانة الكسوة عشرةَ أثواب، وادفع إليه الجميع، فإنِ امتنعَ فقل له: فَرِّقْها في أصحابك، فإن قَبلَها فجِئْني برأسه. فاشتدَّ جَزَعي، وخشيتُ أن يكونَ هلاكُه على يدي، فأتيتُه بالمال والثياب، وقلت: مولانا يقول: استعِنْ بهذه الدراهم في نفقتِكَ، والبَسْ هذه الثياب. فقال: أمَّا هذه الثياب التي