الفسادَ علينا به أكثرُ، وقد كاتبنا أبا علي ابن أستاذ هرمز -يعني عميد الجيوش- وأنكرنا عليه فِراقَه ببغداد، وأمَرْناه بالعود إليها، ورسَمنا له بمئة ألف دينار نفقاتِ العساكر، وإنْ دعَتِ الحاجةُ إلى حضوري، فأنا أول طالعٍ على أمير المؤمنين، فدعا له القاضي وخرجنا، فحمَلَ إلينا النفقة والثياب، ووقع القاضي بقضاء عُمان والسواحل، وعُدْنا إلى بغداد، فوجدنا دعوة الحاكم قد أُزيلَتْ، وسببُه أنَّ عميدَ الجيوش عادَ إلى بغداد وجهزَ العساكر لقتال قِرْواش، وبعث إليه رسالةً يتهدَّده، فاعتذر عما كان منه، وطلب الرضا والعفو من الخليفة، فتوقَّف أولًا، ثمَّ أجاب، فأعاد قِرواش الخطبة، وكان لمَّا بعث رسولَه إلى مصر أكرمه الحاكم وأعطاه لِقرواش مالًا، ووصل الرسولُ الرَّقة، وقُطِعَتِ الخطبةُ، فسلَّم المال إلى والي الرقة، وكانت في حكم الحاكم.
وقال أبو جعفر السِّمناني: حدثني أبو الحسن ابن أبي الوزير كاتبُ قِرْواش قال: بعثني قِرْواش إلى مصر، فأُنزِلْتُ أكرمَ منزل، وحُمِلَ إليَّ شيءٌ كثيرٌ، وأوصلتُ إلى الحاكم، فرأيتُه رجلًا أعْيَنَ، غليظَ الصوتِ، بعيدَ الهِمَّةِ، شديدَ الهيبةِ، فأديتُ إليه الرياسة، فقال: قد عَرَفْنا خدمةَ صاحبِكَ، وهذا أمرٌ قد افتَتَحه وساعدَه عليه جميعُ أصحاب الأطراف، مثل بدر بن حسنويه وبني مروان وغيرهم، وما منهم إلا مَنْ قد أرسلنا وكتب إلينا. وعزمتُ على العود، فبعث لصاحبي على يدي من الثياب المغربية المُذْهَبة، والفرجيات المنقَّلة، ومراكب الذهب الثقيلة، والصناعات، ما قيمتُه ثلاثون ألف دينار، وأعطاني ألف دينار لنفسي، وثلاثين قطعةً من الثياب الحسنة، وسرتُ إلى الرَّقة، فورد عليَّ كتابُ صاحبي أنَّه قد أزال الخطبة للحاكم، وأعادها إلى القادر، فخِفْتُ وخلوتُ بوالي الرقة، واستجرتُ به، وقلت له: الأمر فيه كذا وكذا، وأُريد أن تكتب كتابًا وتستأذنَ في تسليم ما معي وعودي إلى الحضرة والمُقام بها. فكتب كتابًا وقال: اكتُبْ أنت أيضًا. فكتبتُ، وجاء الجواب في أيامٍ يسيرة يقول: أمَّا صاحِبُكَ فنحنُ نُدبِّر أمره بما يجب، وأما أنت فقد حَمِدْنا ما كان منك أولًا وأخيرًا، فإنْ شِئْتَ المُقامَ بمكانِكَ أقِمْ، فقد أوصيناهم ما يعتمدون في حقِّكَ، وإن شئتَ اقصِدْ بابَنا فاعْزِمْ، وأمَّا ما ذكرتَ من تسليمه فسلِّمه إلى والي الرقة. قال: فسلَّمتُه إليه، وأقمتُ على أنني مستوطنٌ عندهم، وأقاموا إليَّ بالكفاية، ثمَّ ما زِلْتُ أخرجُ شيئًا بعد شيء من رحلي ودوابِّي على وجه الخِفْية، ثمَّ سِرْتُ ليلًا مع جماعةٍ من بني نُمير حتى وردتُ الموصل.