للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

محرابًا في المسجد، وجعل بابه في مكان لا يرقى إليها إلا بسلم مثل باب الكعبة. وما كان يصعد إليها سواه، ومعه المفتاح، وكانت إذا حاضت أخرجها من المسجد إلى منزله، تكون مع خالتها، فإذا طهرت ردَّها إلى المسجد.

وقال ابن إسحاق: وإنما أدخلها المسجد من أجل نذر أمها. قال: وإنما اقترعوا عليها بعدما بلغت (١).

وأصاب الناس سنة، فعجز زكريا عنها، فشكا إلى بني إسرائيل، فجعلوا يتدافعونها بالقرعة، فخرج السهم على يوسف بن يعقوب النجار، وكان ابن عمها، وكان فقيرًا، يأتيها باليسير، فرأت في وجهه شدة المؤونة عليه، فقالت: يا يوسف، أحسن الظنَّ بالله، فإنه سيرزقنا. فكان الله يثمِّرُ ما يأتي به. وهذه رواية ابن إسحاق. وعامة العلماء على أنَّ زكريا كفلها، ولم تزل عنده يأتيها بطعامها وشرابها، وكان إذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب على باب المحراب، وهو الغرفة، فإذا عاد وجد عندها رزقًا. قال ابن عباس: فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء من ثمار الجنة، فيقول: ﴿يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا﴾ فتقول: ﴿هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٣٧]. وقال ابن عباس: تكلمت وهي صغيرة (٢).

فإن قيل: فمريم بنت عمران يأتيها رزقها رغدًا، وفاطمة بنت محمد تطحن حتى يؤثر الطحن في ذراعها؟ فالجواب: أن مريم كانت مفتقرة إلى وجود آية تستدل بها على براءتها من وجود ولد من غير أب كما في الفاكهة في غير أوانها، أما فاطمة فمنزهة عن مثل هذا، فلا تحتاج إلى آية تدل على براءة ساحتها.

قال ابن إسحاق: ولما رأى زكريا هذا تحركت نفسه إلى طلب ولد، وكان قد كبِرَ وأسنَّ وانقرض أهله، فقال: الذي هو قادر على أن يأتي مريم بالفاكهة في غير أوانها من غير سبب، قادر على أن يرزقني الولد بأن يصلح لي زوجتي كذلك. فذلك قوله تعالى: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾ الآية [آل عمران: ٣٨] ﴿قَالَ رَبِّ﴾ معناه: يا ربي، ﴿وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾ [مريم: ٤] أي: انتشر فيه الشيب كما ينتشر شعاع


(١) انظر "عرائس المجالس" ص ٣٧٥ - ٣٧٦، و "تفسير البغوي" ص ٢٠١ - ٢٠٢.
(٢) انظر "عرائس المجالس" ص ٣٧٦، و "تفسير البغوي" ص ٢٠٢ - ٢٠٣، و "زاد المسير" ١/ ٣٧٩ - ٣٨٠.