للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ذلك فيما وراء النهر، وكان محمود يُكاتبه ويستميلُه، وبَذَلَ له أن يُزوِّجَه ابنتَه، فلم يقبَلْ، وقال: يريد مني أن أخْدُمَه، وأقِفَ في مجلسه، وأُقَبِّلَ الأرض بين يديه، وهذا شيء لا تطاوعني نفسي عليه أبدًا، وأنا أجول في هذه البلاد بقيةَ عمري ولا أذِلُّ لأحد. وكان محمود يُنفِذُ السرايا في طلبه، وهو ينتقل من مكان إلى مكان، ويتعرَّف محمود خبرَه، فيسترحِلُه ويستجلِدُه، فجرد إليه أرسلان الحاجبَ أميرَ طوسَ، وقال له: إذا وقع في يدك فلا تُحدِثْ فيه حَدَثًا وأحضِرْنيه حيًّا. وهذه كانت عادتُه في وصاياه بجنوده إذا قصدوا عدوًّا؛ ينهاهم عن قتله. وسار أرسلان، والتقَوا، فانهزم أبو إبراهيم، وأتبعه أرسلان، فلمَّا دنا منه قال: أمَّا تستحيي مني؟ تُريد أن تقتُلَني وأنتَ مولاي ومولى آبائي؟ فرجع عنه؛ لأنه كان من مماليك السَّامانية، فانتهى أبو إبراهيم إلى حِلَّةِ قومٍ من العرب يقال لهم: بنو خَمَّان، فعرفوه وأنزلوه وأكرموه، ونام من شِدَّة التعب، فقال رئيس الحِلَّة: هذا رجلٌ مطلوبٌ، والصواب أن يُقبَضَ عليه، فإنه طَلِبةُ محمود. فقالوا: ما هذا فِعْلُ العرب، ولا يحسُنُ، ولا جرَتْ به عادة. فلم يقبَلْ، وقتَلَه وهو نائم، وجعل رأسه في مِخْلاةٍ، وجاء به إلى محمود، واستأذن وقال: معي سِرٌّ لا أذكرُه إلَّا للملك. فأحضره بين يديه، وأخرج الرأسَ من المِخْلاة، وألقاه إليه، فوجَمَ محمود وقال: كيف فعلتَ به؟ فحكى له صورةَ ما جرى، فبكى بكاءً شديدًا، وأمَرَ بصَلْبِ الأعرابي، وبعثَ أرسلان إلى العرب، فقتل جميعَ مَنْ في الحِلَّة حتَّى النساء والصبيان، وقال: واللهِ لا تركتُ منهم نسمةً تشمُّ الهواء. وقال محمود: هؤلاء قومٌ قتلوا ملكًا، وخرقوا ذِمامًا، وفارقوا رسومَ العرب، أفلا أقتُلُهم؟.

وأياز مملوك محمود صاحب الحكايات. ولمَّا عبر محمود وراء النهر ووصل إلى بلاد مَدْرخان وكان ملكًا عظيمًا، مشى السُّفراء بينهما في إصلاح الحال، واستقرَّ أن يركب كلُّ واحدٍ في عشرين غلامًا من خواصِّه ويجتمعا، فلمَّا اجتمعا أخذ أيازُ قوسًا، وفَوَّقَ سهمًا (١)، فقال محمود: ما هذا؟ قال: رأيتُ واحدًا من أصحاب مَدْرَخان قد فَوَّقَ سهمًا، ففعلتُ مثله شفقةً عليك، ثم اجتمعا، وسأله محمود الممالحة، فأبى،


(١) فَوَّق السهم: عمِلَ له فُوقًا، وفُوق السهم: هو المكان الَّذي يثبت الوتر منه. المعجم الوسيط (فوق).