أقام عند مهارش البدري هذه المدة يخدمه بنفسه، وقال الخليفة: لما كنت بحديثة عانة قمتُ في بعض الليالي إلى الصلاة، فوجدتُ في قلبي حلاوة المناجاة، فدعوتُ الله تعالى بما سنح لي، ثمَّ قلتُ: اللهمَّ أعِدْني إلى وطني، واجمَعْ بيني وبين أهلي وولدي، ويسِّر اجتماعنا، وأعِدْ روض الإنس زاهرًا، ورَبْعَ القرب عامرًا، فقد قلَّ العزاء، ونزح الجفاء، فسمعتُ قائلًا يقول على شاطئ الفرات بأعلى صوته: نعم نعم. فقلتُ: هذا رجل يخاطب آخر، ثمَّ أخذتُ في السؤال والابتهال، فسمعتُ ذلك الصائح بعينه يقول: إلى الحول. فعلمتُ أنَّه ناطقٌ أنطقه الله تعالى بما جرى عليه الأمر.
وكتب القائم في السجن دعاءً وسلَّمه إلى بدويِّ، وقال: اذهب إلى الكعبة وعلِّقه عليها، وكان في الكتاب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، إلى الله العظيم، من عبده المسكين، اللهمَّ إنك العالم بالسرائر، المحيط بمكنونات الضمائر، اللهمَّ إنك غنيّ بعلمك واطِّلاعك على أمور خلقك، عن إعلامي بما أنا فيه عبدٌ من عبادك، قد كفر نعمتك وما شكرها، وألقى العواقب وما ذكرها، أطغاه حِلْمُك، واغترَّ بأناتك، حتى تعدَّى علينا، وأساء إلينا عتوًا وعدوانًا، اللهمَّ قَلَّ الناصر، وأُعِز الظالم، وأنت المُطَّلع العالِم، والمنصف الحاكم، بك نُعَزُّ عليه، وإليك نهرب من بين يديه، فقد تعزز علينا بالمخلوقين، ونحن نعتزُّ بك يا رب العالمين، اللهمَّ إنّا حاكمناه إليك، وتوكلنا في إنصافنا منه عليك، وقد رفعتُ ظُلامتي إلى حرمك، ووَثِقتُ في كشفها بكرمك، فاحكُمْ بيني وبينه وأنت أحكم الحاكمين، اللهمَّ أظهِرْ قدرتَك فيه، وأرِنا ما نرتجيه، فقد أخذته العِزَّة بالإثم، اللهمَّ فاسلُبْه عِزَّه، ومَلِّكْنا ناصيتَه، يا أرحم الراحمين، وصلَّى الله على سيدنا محمَّد وسلَّم وكرَّم. فحملها البدويُّ وعلَّقها على الكعبة، فحسب ذلك اليوم، فوجد البساسيريَّ قُتِلَ وجيء برأسه بعد سبعة أيام من التاريخ، ومن شعر القائم قاله في الحديثةِ:[من البسيط]
خابَتْ ظنوني ممَّنْ كنتُ آمُلهُ … ولم يَجُلْ [ذِكْرُ](١) من واليت في خَلَدي
تعلَّموا من صروف الدهر كُلِّهمُ … فما أرى أحدًا يحنو على أحدِ
(١) ما بين حاصرتين سقط من الأصلين (خ) و (ف)، وأثبت من البداية والنهاية ١٢/ ٧٨.