قصد خديعة صاحبه، أما دُبَيس فإنَّه قصد مدافعة السلطان لما تحقَّق وصولُه، حتى يبعد عنه السرية، فإنه يصعد في البرية إلى حيث يأمن على نفسه وحِلَّته وعشيرته، ويدبِّر أمر البساسيري في مُضيّه عنه، وأما أنوشروان فإنه قصد أن يبعد عن القوم، ويفسح لهم في البرية، فإذا رحلوا تبعهم وأكبَّ عليهم؛ لأنهم حينئذ يكونون قد اشتغلوا برحيلهم وأهلهم عن الحرب، فكان ما قصد صحيحًا، وفعله الله تعالى، وعاد دُبيس إلى البساسيري وأخبره، فقال: الأمر إليك، قد أشرتُ بما أشرتُ وما قُبِلَ مني، افعَلْ ما تراه. وأصبح دُبيس يوم الثلاثاء حادي عشر ذي الحجة هو والبساسيري، فرحلا ورحل أنوشروان بمقابلتهم قُذًّا (١) كمن يراصدهم، فلمّا أخذوا في الرحيل أكبُّوا عليهم، فثبت البساسيري، وتبيَّن لدُبيس غلطُه، فسارع إلى أوائل الظعن ليردَّه فلم يقبلوا منه ولا التفتوا إليه، وصار الواحدُ يُردف ولدَه خلفه وامرأتَه، وتشاغلوا بنفوسهم، وألقى الله في قلوبهم الرعب، فانهزم دُبيس بن مَزْيَد، ووقف البساسيري فقاتل، وكثروا عليه وأسروا أبا الفتح بن وَرّام أميرَ الأكراد بالحِلَّة، فأفرج عنه أنوشروان واصطنعه، وثقُلَ ذلك على السلطان لمّا بلغه، وأسر منصورًا وبدرانَ وحمادًا أولادَ مَزْيَد، وانهزم البساسيري بعد أن تورَّط فيهم على فرس بتجافيف، فلم يتَّجِه، وضربه بنُشّابة، واجتهد في قطع التجافيف فلم ينقطع، وأدركه بعض الغلمان فضربه في وجهه بالسيف ولم يعرِفْه، ورآه بعض العرب المجروحين وأسره كُمُشْتِكين، فنازعه عليه أردم الخادم، فنزل إليه، وحزَّ رأسه، وجاء به إلى السلطان.
وقال محمد بن هلال الصابئ: اعتبرتُ دخولَ أصحاب البساسيري بغداد، فكان اليوم السادس من ذي القعدة سنة خمسين، وخرج أهلُه وأولادُه منها في مثل ذلك من السنة الآتية، وانتزع الخليفةُ من داره يوم الثلاثاء ثامن عشر كانون الثاني في سنة خمسين، وقُتِلَ البساسيريُّ يوم الثلاثاء الثامن عشر منه في السنة الآتية، وهذا من الاتفاقات الغريبة، ودخل الأتراك في الظعن جميعه فساقوه، وكان فيه أموالُ بغداد جميعُها مع الأكابر، وأموالُ العرب بأسرها مع نسائها وأولادها، وكان في السبي نساءُ البساسيري وأولادُه وبناتُه وزهرة وزوجتُه وأختان لابن مَزيَد وابنتان له، وارتكب من
(١) من قوله: حَذو القُذَّة بالقُذَّة، وهو مثل يضرب للشيئين يستويان ولا يتفاوتان. المعجم الوسيط (قذذ).