للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

واركَبْ، وإلَّا نُهِبَ القصر. فركب وعلى رأسه البُنود (١) والأعلام. وخلفه الكوسات (٢) تخفق، والمَصامدة والكتاميُّون، ووقع القتال بين يديه، فجاء إلى موضع القتال، فلمَّا رآه ناصر الدولة ترجَّل وقبَّل الأرض وقال: إنما كنتُ أقاتلُ عسكرًا مثلي، فأمَّا السلطان فلا. ثم ركب وولَّى فيما بقي من أصحابه، وانهزم الباقون، وسار إلى الإسكندرية وكانت معقله، وفيها أمواله وذخائره وإخوته وأهله، وجمع العرب والقبائل وعاد إلى حصار مصر، وقطع الميرة عنها، واشتدَّ الحصار عليها، فراسل صاحبُ مصر ابنَ حمدان في الموادعة، فقال: لا أفعل حتى ينفذ حكمي في كلِّ من عاداني من الأتراك وغيرهم. فَأُجيب إلى ذلك، وانهزم طائفة من الترك إلى بدر الجمالي، فدخل ابنُ حمدان إلى مصر فملكها، وأقرَّ صاحبها في قصره ولا حُكمَ له، وسيَّر أخاه فخر العرب إلى الرملة، فأطاعته العرب التي حولها من سِنْبِس وغيرها، وملكها، وسار إليه حازم بن الجراح في طيئ كلِّها، ومضى بدر بن حازم مخالفًا لأبيه إلى بدر الجمالي؛ لِما فعله مع الشريف ابن أبي الجن.

وفيها استولى العفيف مختص الدولة بن أبي الجنِ -أخو حمزة المقتول- على دمشق، وطرد نواب أمير الجيوش، واستولى على صور ابنُ أبي عقيل، وعلى طرابلس قاضيها ابنُ عمار، وعلى الرملة والساحل ابنُ حمدان، ولم يبقَ لأمير الجيوش غير عكا وصيدا.

وفي ذي القعدة خلا من مصر خلق عظيم لِما حصل بها من الغلاء الزائد والجوع الذي لم يُعهد مثلُه في الدنيا، فإنه مات أكثرُ أهلها، وأكلَ بعضُهم بعضًا، وظهروا على أحد الطباخين أنه ذبح عدةً من الصبيان والنساء وأكل لحومهم بعد أن طبخها وباعها للناس أيضًا، وأُكِلَتِ الدوابُّ بأسرها، ولم يبقَ لصاحب مصر سوى ثلاثة أفراس بعد أن كانت عشرةَ آلاف ما بين فرس وجمل ودابَّة، وبِيعَ الكلبُ بخمسة دنانير، والسِّنَّور بثلاثة، ونزل أبو المكارم وزير المستنصر على باب القصر عن بغلته، وليس معه إلا غلام واحد؛ لقلة ما تطعم الغلمان، فجاء ثلاثة وأخذوا بغلة الوزير، ولم يقدر الغلام


(١) البُنود؛ جمع بند: وهي كلمة فارسية معناها: العلم الكبير. اللسان (بند).
(٢) الكوسات؛ جمع كُوس: وهو الطبل يُدقُّ به أثناء الحرب. معجم الألفاظ الفارسية المعربة ص ١٤٠.