الجمعة دفعتين في الطيَّار، ودخل الماء من شبابيك المارستان العضدي فهدمه، ووقعت الجوامع والمساجد، وكان الماء في الجامع قامة، ولمَّا نقص الماء ضرب الوزير والناسُ الخِيم، وعمل الخدم أكواخًا من القصب وأقاموا فيها، وبلغت أجرة الرُّوزجاري في اليوم خمسة قراريط، وأُخرج الناسُ من تحت الهدم، وعلا الناس ببغداد الذل والصغار، وكانوا يمشون على التّلال كالنمل، ثم فسد الهواء، ونتن البلد، وعفنت الغلال، فمات مَنْ بقي إلا القليل، [وصارت بغداد عبرةً للمعتبرين، وفكرةً للمتفكِّرين]، واستكثر الناس من زرع البطيخ والخيار والقِثَّاء، ففسد جميعُه ودوَّد، فكان الناس إذا مرَّ على القراح سدَّ أنفه، [وحصر الناس ما غرموه، فعُلم أنه ماء سخط وعذاب كالطوفان] والعجبُ أنَّ المواضع التي أسفل [من] بغداد [مثل واسط والبصرة] كانت تغرق بدون هذه الزيادة، فما وصل إليها الغرق ولم يتجاوز بغداد، فاستدلُّوا على أنه ماء سخط، وفاض جيحون حتى طفح على وجه الأرض أربعة فراسخ -وقيل: عشرة- وتعذَّر الصُّنَّاعُ ببغداد، حتى إن النساء كُنَّ يضرِبْنَ اللَّبِن، وهبَّتْ عقب ذلك ريخ سوداءُ فرمت النخل، وكان الماء قد غطى رؤوس النخل.
وفي رجب ورد مؤيد الملك أبو بكر بن نظام الملك إلى بغداد، فلم يخرج أحدٌ لتلقِّيه من كثرة الطين، فشقَّ عليه ذلك، وظن أنه تهاون به، فنزل بباب المراتب، وكان قد تزوَّج بابنة أبي القاسم بن رضوان البَيع، وأغلق بابَه ولم يُعطِ أحدًا طريقًا، وبلغ الخليفةَ، فاستُدعي إلى بيت النُّوبة وخُلِعَ عليه، وقيل له: قد علمتَ العذر في ترك تلقّيك من كثرة الطين والخراب ولم تعرفنا، واعتذر إليه الوزير، وأصبح الوزير فقصده إلى النظامية وعاد.
وفي شوال ورد رسول نظام الدين بن مروان من ميَّافارقين ومعه رسول ملك الروم، ومعه كتابان إلى الخليفة والوزير مكتوبان بالذهب بالسرياني، وتحت كل سطر تفسيره بالعربي يتضمَّن المسأَلة لهما في الوساطة بينه وبين ملك شاه في الهدنة.
وفيها بنى حسان بن مسمار الكلبي قلعة صرخد، وكتب على بابها: وأمر بعمارة هذا الحصن المبارك الأميرُ الأجلُّ مُقدَّم أمر العرب عز الدين فخر الدولة عُدَّةُ أمير المؤمنين، يعني المستنصر؛ لأنه كان في خدمته، وذكر اسمه ونسبه.