للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

جوعًا. وكان الخبز في الحريم رخيصًا، وفي عسكر السلطان غاليًا، فما رُؤي سُلْطانًا حاصر بلدًا هو المحصور إلَّا هذا، وظهر من السُّلْطان حِلْمٌ وافر عن العوام، وطلب أصحابُ السُّلْطان من الخليفة ما نُهِبَ من دورهم، فقبض على عالم كثير من العوام، واسترجع منهم البعض، ثُمَّ بَعَثَ الخليفة إقبال الخادم وابن الأنباري وابن الصَّاحب إلى السُّلْطان بخيلٍ كثيرة وبغالٍ وجواشن وتخوت ثياب، وأنزل الوزير ابن صدقة في الزَّبزب، والكلُّ بين يديه في السُّفن، وصَعِدوا إلى دار السُّلْطان، وكان يومًا عظيمًا، فدخلوا إلى السُّلْطان فقام، وقَبَّل الأرض، ودعا للخليفة. وجاء وزير السُّلْطان إلى الخليفة، فأكرمه كرامةً لم يُكْرَم بها قَطُّ وزير.

ومَرِضَ السُّلْطان مرضًا صَعْبًا، فبعث إليه الخليفةُ بمالٍ وشراب، وأدويةٍ وألطاف، فَصَلُحَ، ثم انتكس وأُرجف عليه، وكان الخليفة قد هَيَّأَ له الخِلَع، فمنعه المرض، وأشار عليه الطبيب بالخروج من بغداد، فبعث الخليفة إليه بالخِلَع وهو مطروحٌ على جنبه، فأُرميت عليه.

وقيل: إنَّ سبب مرضه أَنّه ركب يومًا في ميدان الحلبة، فأصابه غَشْي، فَسَقَطَ من فرسه، وحُمِلَ إلى داره، فأُرجف بموته وحُمِلَ في مِحَفَّةٍ، وأَمَرَ أَنْ يُمَرَّ به تحت منظرة الخليفة، فلما وَصَلَ إليها أمر أنْ يُحَطَّ هناك، وبَعَثَ إلى الخليفة يقول: ما أصابني هذا إلَّا عقوبة لما بدا مني، وأسأل العفو، وأن لا تدعو عليَّ. فأجابه الخليفة، وطَيَّبَ قلبه.

وسار إلى الجبل ثاني عشرة ربيع الآخر، وولَّى شحنكيَّة بغداد بِهْرُوز الخادم، وولى المَوْصِل زَنْكي بن آق سُنْقُر، فلمَّا وَصَلَ السُّلْطان هَمَذَان جاءته رسل سنجر تلومه على ما فَعَلَ ببغداد، وتقبِّحُ عليه ذلك، وبَعَثَ سنجر إلى الخليفة رسولًا يعتذر إليه مما جرى من محمود (١).

وفي هذه الواقعة يقول الأرَّجاني (٢) من قصيدة: [من البسيط]

لقد رأى اللهُ ما أبدى خليفَتُهُ … وما أعادَ من الأَمْرِ الذي اشتهرا

خلافةٌ ورَّثَتْها السَّابقونَ له … وراثةً قد نَفَوْا عن صَفْوها الكَدَرا


(١) انظر "المنتظم": ١٠/ ٢ - ٥، و"الكامل": ١٠/ ٦٣٥ - ٦٣٨.
(٢) هو أَحْمد بن محمَّد، أبو بكر الأرجاني، وستأتي ترجمته في وفيات سنة (٥٤٤ هـ) من هذا الكتاب.