للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في ثيابٍ رثَّة تتعثَّر بذيلها، ووقفت بين يديه، فقال: ما حاجتُكِ؟ فقالت: امرأةٌ غريبة، وأنشدت: [من البسيط]

يا خيرَ منتصفٍ يُهدَى به الرَّشَدُ … ويا إمامًا به قد أَشرق البلدُ

تشكو إليك عميدَ المُلكِ أَرملةٌ … عَدَا عليها فما يَقوَى به (١) الأَسَد

فابتزَّ منِّي ضِياعي بعد مَنعَتها … لمَّا تفرَّق عنِّي الأهلُ والوَلَد

فأَطرق المأمونُ ساعةً [مفكَرًا] (٢) ثم رفع رأسَه وقال (٣):

مِن دون ما قلت عِيلَ الصبرُ والجَلَدُ … فأَحضِروا خصمَها اليومَ الذيَ أَعِدُ (٤)

والمجلسُ السَّبت إنْ يُقضَ الجلوسُ لنا … أُنْصِفْكِ منه وإلَّا المجلسُ الأَحَد

وقام، فلمَّا كان يومُ الأحدِ حضرت المرأة، فقال لها: وأين الخصم؟ فأشارت إلى العباس بنِ المأمون، وكان قائمًا على رأسِ أبيه وهو غلام، فقالت: غصبني ضَيعتي، فسأله الحجَّة، فسكت، والمرأةُ ترفع عليه صوتَها وهو لا ينطِق، فقال لها بعضُ الحاضرين: أَترفعين صوتَك على ابن أميرِ المؤمنين! فقال له المأمون: اُسكت؛ فإنَّ الحقَّ أَنطقها والباطل أَخرسه، ثم ردَّ عليها ضَيعتَها وأعطاها عشرةَ آلافِ درهمٍ وردَّها إلى أهلها.

وقال إسحاقُ بن إبراهيمَ المَوصلي: كان المأمونُ قد سخط على الخَليع (٥) لأنَّه هجاه ومدح الأَمين. قال إسحاق: فبينا أنا ذاتَ يومٍ عند المأمون، إذ دخل ابنُ البوَّاب الحاجبُ وبيده رُقعة، فاستأذن في إِنشادها، فأذن له، فقال: [من الطويل]

أَجِرني فإنِّي قد ظمئتُ إلى الوعد … متى تُنجز الوعدَ المؤكَّدَ بالعهدِ

أُعيذك من خُلْف الملوكِ فقد ترى … تقطُّعَ أنفاسي عليك من الوَجْد


= يجلس للخصوم من الغداة إلى بعيد الظهر، فلما أراد القيام. والمثبت من (ب).
(١) في (ب): بها، وفي (خ) و (ف): يد، والمثبت من المحاسن والمساوئ ص ٤٩٧، وتاريخ دمشق ٣٩/ ٢٥٧. وفي العقد الفريد ١/ ٢٨: عدي عليها فلم يُترَك لها سَبَدُ.
(٢) ما بين حاصرتين من (ب).
(٣) بعدها في (ف): هذا الشعر مصنوع عليه. وليست في المصادر.
(٤) دمج المصنف هنا بيتين في بيت، واختلفت المصادر في رواية عجز هذا النبي .
(٥) هو الحسين بن الضحاك الشاعر.