للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مثوانا، ثم قال: أما علمتُم أنَّ إمامَكم لا يُعطي الشعراء شيئًا؟ فقلنا: قد جئنا الآن، فافتح لنا في هذا وجهًا.

فأقمنا ببابه أربعة أشهر، ومسلمةُ يستأذن لنا، ولا يأذن.

قال: فأتيتُ يومَ جمعة وعمر يخطب، فقال في خطبته: لكلِّ سفرٍ زادٌ لا مَحالة، فتزوَّدُوا من الدنيا إلى الآخرة، وكُونوا كمن عاينَ ما أعدَّ اللهُ [له] من ثوابه وعقابه، فعملَ طلبًا لهذا وخوفًا من هذا، ولا يطولَنَّ عليكم الأمَدُ فتقسُوَ قلوبُكم، وتنقادُوا لعدوِّكم، أعوذُ بالله أن آمرَكم بما أنهى عنه نفسي، فتخسرَ سَفْقَتي (١)، فارتجَّ المسجدُ بالبكاء، وبكى عمر حتَّى بلَّ ثوبَه.

قال كُثَيِّر: فجئتُ إلى أصحابي وقلتُ: جدِّدُوا له من الشِّعر عْيرَ ما أعدَدْتُم، فليس الرجل بدنياوي.

قال كُثَيِّر: ثم استأذنَ لنا مسلمةُ وقال: يا أمير المؤمنين، الشعراء ببابك منذ مدَّة (٢)، وإن سهامَهم مسمومة، وقد مُدح رسولُ الله بالشِّعر، وأجاز عليه، فأعطى كعبَ بنَ زهير حُلَّة، وأعطى العبَّاس بن مِرْداس ما قطعَ به لسانَه. فقال عمر: مَنْ بالباب منهم؟ فقال: عمر بنُ عبد الله بن أبي ربيعة. فقال: أليس هو القائل:

ثم نَبَّهتُها فهَبَّتْ كَعابًا … طَفْلَةً ما تُبينُ رَجْعَ الكلامِ

ساعةً ثم إنَّها بعدُ قالتْ … ويلَتَا قد عَجِلْتَ يا ابنَ الكرامِ

أعلى غير موعدٍ جئتَ تسعى … تتخطَّى إليَّ رُوسَ النِّيامِ

فلو كان عدوُّ الله إذ فَجَر؛ سترَ على نفسه لكان، واللهِ لا دخلَ عليَّ أبدًا.

ثم قال: مَنْ بالباب غيرُه؟ قال: هُمام بن غالب -يعني الفرزدق- فقال: أليس هو القائل:

هما دَلَّتاني من ثمانين قامةً … كما انقضَّ بازٍ أقتَمُ الريشِ كاسرُهْ

فلما استَوَتْ رِجْلايَ بالأرض قالتا … أحيٌّ فيُرْجى أم قتيل نُحاذرُهْ


(١) في "الأغاني" ٩/ ٢٥٧: صَفْقَتي (تقال بالسين أو الصاد) أي: بيعتي.
(٢) القائل هو عديّ بن أرطاة، وليس مسلمة، وهذا الكلام حتَّى نهاية ذكر دخول جرير على عمر من رواية غير التي قبلها، وقد جمع بينهما المصنف كما ذكرتُ قبل تعليق، وتنظر الروايتان في "المنتظم" ٧/ ٣٥ - ٤٢.