للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي قوله "أقفز من بلاد الجن وأوحش من جوف العير" مبالغة أجنبية عن أسلوب التاريخ، فإن الإدريسي تتبع الحملة الهلالية أحسن تتبع ووصف طبنة ومقرة والمسيلة وغيرها بالعمران.

عجزت صنهاجة الغربية أمام الهلاليين كأختها الشرقية، وغلبوا أيضا زناته بالصحراء، ونشأ عن ذلك فوضى في الوطن، فانقطعت الصلة بين المدن بإخافة السبل، وفر الفلاحون من الضواحي، فوقفت التجارة والفلاحة، وانحصرت العمارة والأمن في السواحل شمال قسنطينة حيث لا شر بين العرب والبربر.

وكان ضرر الحرب بالجزائر أقل منه بتونس وطرابلس؛ لأن الجزائر لم تكن هي المقصودة بهذه الحملة؛ ولم تطل بها مدة الحرب؛ وسواحلها حيث كتامة كانت منطقة سلم؛ ووسطها به معاقل منيعة وجبال حصينة؛ وجنوبها حيث اشتدت الحرب في صحراء ليس فيها كبير عمارة.

والمسؤول عما لحق المغرب من أضرار الحرب هي صنهاجة التي لم تحسن سياسة هؤلاء العرب وجرأتهم عليها بما كان بين دولتيها من تنافس، وقد بالغ كُتَّاب العربية في تقدير تلك الأضرار ثم حمَّلوا الهلاليين مسؤوليتها؛ ذلك لأنهم كتبوا لدول بربرية ولم يكن للهلاليين حكومة تطمعهم في إنعامها، ولبداوتهم لم يهتموا بدعاية سياسية تنشر لهم أو عليهم، واتخذ كُتَّاب الفرنسية مبالغات كُتَّاب العربية سُلَّمًا لثلب العرب، وصاروا يطرون البربر بعد ما كانوا يقذفونهم بأشنع القذائف في الدورين الروماني والبيزنطي، واقتصر في هذا الغرض على كلمة واحدة للكاتب العسكري كاريت، حيث قال:

"كان هجوم العرب الفاتحين كالإعصار يقتلع الأشجار ويهدم المنازل، وهجوم الهلاليين كالحريق الهائل الذي يذر الأشجار والمساكن رمادًا تذروه الرياح فما أبقاه الأعصار قضى عليه الحريق، وما بقي عن السياسة العربية قائما بالمغرب ذهب به الطبع العربي الهدَّام، فتمم الهلاليون أعمال التخريب التي ابتدأها الخلفاء الأولون" اهـ.

قلت: أما تجد في هذه الجملة التي هي غيض من فيض ريح مسيحية القرون الوسطى وروح الاستعمار العصري؟ لعل كاريت تصور حربا أوربية لآلاتها المدمرة

<<  <  ج: ص:  >  >>