فلم يكد يدرك السادسة من عمره حتى توفي أبوه فتربى يتيما وعاش فقيرا، ولم يكن له ما يعتمد عليه من حطام الدنيا سوي مكتب بالصالحية يأتيه منه خمسة دراهم في الشهر، فكان ذلك الظرف بوتقة صهر فيها معدنه، فاستعان على العيش بما تعلمه.
فحفظ القرآن، ومهر في الفقه، وفروع العربية إلى أن تصدر لدراستها، وظل مواظبا على البحث والاطلاع.
وما زال مقبلا على البحث والتنقيب، منصرفا عن التدريس حتى مات القاضي تقي الدين بن سليمان فعرض عليه رياسة القضاء نتيجة لثناء أهل العلم عليه، ولشهرته بالعبادة والوقار فتوقف، فطلع العلامة (ابن تيمية) إليه ولامه على الامتناع، وما زال يثير عن همته حتى قوي عزمه، ورضي بالقضاء بشروط، ألا يركب بغلة، ولا يحضر المواكب ولا يلبس حريرا فأجيب إلى طلبه، فباشر القضاء أحسن مباشرة وعمر الأوقاف، وكان ينزل من الصالحية ماشيا، وربما ركب مكاريا ومعه مئزره وسجادته، ومحبرته من زجاج.
وشهد له أهل العلم والدين بأنه عن قضاء العدل، وكان ذا أوراد وعبادات وحج عدة مرات مات في آخرها بالمدينة المنورة.
[٢٤ - جرير بن عطية]
الشاعر الشهير ابن عطية بن الخطفي (١)، والخطفي لقب، واسمه حذيفة بن بدر بن سلمة بن عوف بن كليب بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، ويكنى جرير أبا حرزة، وأمه هي أم قيس بنت عطية هي النوار بنت يزيد بن عبد العزيز بن مسعود بن حارثة بن عوف بن كليب.
وكانت أم جرير قد رأت في نومها، وهي حامل به، كأنها ولدت حبلا عن شعر أسود، ولما وقع منها، جعل الحبل ينزو فيقع في عنق هذا فيخنقه، حتى فعل ذلك برجال كثيرين، فانتبهت مرعوبة، فأولت رؤياها فقيل لها: ستلدين شاعرا