للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[القصة الخامسة]

ارتحل القاضي أبو بكر بن العربي المعافري الإشبيلي المولد، من المهدية بتونس قاصدًا السواحل المصرية، وهاج البحر الأبيض المتوسط عليهم في السفينة، وقد غرقوا فيه، فأخرجهم الله منه خروج الميت من القبر، وانتهوا بعد خطب طويل إلى بيوت بني كعب (١) من سُلَيْم، وهم في مسغبة وعطب وعُرْي، إذ قد قذف البحرُ زقاقَ زيت مزقت الحجارة جلدها، فاحتزموا الجلود بعد النجاة من الغرق واشتملوها، فعطف عليهم أمير سُلَيْم فآواهم وأكرم مثواهم وأطعمهم وكساهم، وكانت عنايته بهم ناتجة عن معرفتهم بمعرفة القاضي أبي بكر بن العربي منذ صباه للعبة الشطرنج التي يتعشقونها إذ ذاك، فقد حضر إليهم ابن العربي وهم يلعبون الشطرنج وعلى رأسهم أميرهم، فكشف لهم عن مهارته فيه، فأعجبوا به، وحدث أن حرك أمامهم بعض حجارة الشطرنج مُساعَدةً للأمير حتى غلبهم، وفي أثناء تلك التحريكات ترنم ابن عم الأمير منشدًا قول أبي الطيب المتنبي:

وأحلى الهوى ما شَكَّ في الْوَصْلِ رَبُّه … وفي الهجرِ فهو الدهْرَ يَرجُو ويَتَّقي

فقال الأمير: لَعَن الله أبا الطيب، أوَيَشُكُّ الرَّبُّ؟ وهنا لم يستطع القاضي أبو بكر أن يسكت، فبادره قائلًا: إنه لم يفهم مقصد الشاعر، فالمتنبي إنما أراد بالرب هنا: (صَاحبَ الهَوَى) لا (المَوْلى) جل وعلا، وغَرَضُ المتنبي أن أحلى الهوى ما يَشُكُّ المُحِبُّ فيه في وصال محبوبه له، فهو طيلةَ عمره بين حالتي رجاء الوصال وخوف الهجران، كما قال:

إذا لم يكن في الحب سُخْطٌ ولا رِضىً … فأيْنَ حَلَاوَاتُ الرَّسَائِلِ والْكُتْبِ؟

وعندما أدرك القوم أن ضيفهم عالم كبير من علماء المسلمين، وأديب كبير من أدباء العرب، وحدثهم بأن أباه معه، استدعوا أباه، وأكرم السُّلَميون مثواهما، وخلع عليه الأمير خِلَعَهُ، وجاد لهم بجفان الطعام، ومن ثم ساروا حتى انتهوا إلى مصر (٢).


(١) بني كعب من علَّاق من عوف وكانت لهم الرئاسة في عربان سُلَيْم في تونس الخضراه عدة قرون.
(٢) ترجمة القاضي أي بكر بن العربي، لمحب الدين الخطيب، في مقدمته لكتاب "العواصم من القواصم"، ص ١١ و ١٢، نشر الدار السعودية للنشر بجدة.

<<  <  ج: ص:  >  >>