للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الناس جميعًا، فأنت دهرك كله شريد طريد هارب خائف، فلو كففتَ عن هذا، وصرفت هذا الشعر عن نفسك.

فقال دعبل، بل أجاب: ويحك إني تأملت ما أقول، فوجدت أكثر الناس لا يُنقطع بهم إلا على الرهبة، ولا يبالي بالشاعر وإن كان مجيدًا إذا لم يخفْ شرَّه، ولمن يتقيك على عَرضه أكثرُ ممن يرغب إليك في تشريفه، وعيوبُ الناس أكثر من محاسنهم، وليس كل من شرفته بشعر شَرُفْ، ولا كل من وصفته بالجود والمجد والشجاعة ولم يكن ذلك فيه انتفع بقولك، فإذا رآك قد أوجعت عرض غيره وفضحته اتقاك على نفسه، وخاف من مثل ما جرى على الآخر، ويحك يا أبا خالد إن الهجاء المقذع آخذُ بضَبُع الشاعر من المديح المُضرع.

قال أبو خالد: فضحكت من قوله وقلت: هذا واللَّه مقال من لا يموت حتف أنفه (١).

وهجا دعبل أبا نُضير بن حميد الطوسي فقال:

أبَا نُضَير تحلْحَل عن مجالسنا … فإن فيكَ لمن جاراكَ مُنتقَصَا

أنت الحمارُ حرونًا إن وقعتَ به … وإن قصدتَ إلى مربوعهِ قمَصا

إني هززَتُكَ لا آلوكَ مجتهدًا … لو كنتَ سيفًا ولكني هززتُ عصا (٢)

كما هجا الرشيد بعد موته، ولم يترك من محسن أو مسيء إليه إلا هجاه، وقد زار مصر وحمل كتبا إلى المطلب بن عبد اللَّه بن مالك الخزاعي عندما كان واليًا عليها، ثم إن المطلب ولي دعبلًا أسوان، فنالَ المطلبُ منه المدحَ والقدحَ والهجاء المر، وما حمل الهجاء إليه إلا سوء سمعته وكان حتفه في هجائه.

وفي حياته مواقف مخزية عندما جنى جناية بالكوفة وهو غلام، فأخذه قائد شرطتها حينذاك منظورُ الأسدي، ثم ضربه ثلاثمائة سوط، فخرج من الكوفة ولم يدخلها إلَّا نادرًا، كما قتل رجلًا صيرفيًا وكل ظنه أن كيسه معه فوجد في كمه رمانًا فهرب (٣).


(١) الأغاني ٢٠/ ٧٤.
(٢) الأغاني ٢٠/ ٧٩.
(٣) الأغاني ٢٠/ ٨٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>