للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإعلاء دين الله في هذه البلاد، وقد قالت الخنساء كلمات خالدة قبل الزحف الأعظم لفتح العراق وفارس:

(يا بني إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو ما هجنت حسبكم ولا غيرت نسبكم، واعلموا أن الدار الآخرة خير من الدار الفانية، ويقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)} [آل عمران: ٢٠٠]، فإذَا أصبحتم غدًا إِن شاء اللهَ سالمين فأعدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شَمَّرَت عن ساقها، وجللت نارًا على أرواقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها، عند احتدام خميسها، تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخُلْد والمُقَامة).

وتقدم جند الله في القادسية وتكسَّر الصف الفارسي أمامهم بعد الصف وظلوا في تقدمهم يتصايحون ويتدافعون نحو الموت؛ لأنهم كانوا يؤمنون بالله وأن الجنة الوارفة الظلال إنما هي تحت ظلال السيوف، وتمت هزيمة جيوش كِسْرى المجوسي ومن معه من الفُرس عَبَدة النار، وأعز الله الإسلام واستطاعت موقعة القادسية موقعة الشرف والفخار والكرامة أن تُغيِّر وجه التاريخ ويلمع نجم العرب وينطفئ نجم الفُرس إلى الابد، ومزَّق الله دولة كِسْرى كما مزَّق كتابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحمل النعاة إلى الأم العجوز (الخنساء) أنباء استشهاد بنيها الأربعة مرة واحدة فتملكتها هزة المفاجأة، ورفعت رأسها بعد ذلك إلى السماء في إيمان بالغ، تسأل الله تعالى أن يُعجِّل بها لتلحق بالأحبة في جواره الكريم وتظفر بما ظفروا به من النعيم المقيم وقالت: "الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم جميعًا في ميدان الشرف وتحت راية الجهاد في سبيل الله، وأعز شرفي في هذا بأن أتم نعمة النصر الأكبر على المسلمين". وماتت الخنساء بعد أن امتد بها العمر لتشهد الخلفاء الراشدين وتقر عينها برؤية أمجاد المسلمين وهم يتقدمون في بلاد فارس وبلاد الروم، وهو الشيء الذي لا يتصوره عقل من هذا المجد السريع لقبائل العرب والذين قد نالوا عزة ورفعة بفضل الإسلام والحمد لله رب العالمين، وكان موت الخنساء في البادية في وسط قومها من بني سُلَيْم وذلك في عهد معاوية بن أبي سفيان، وانتهت بذلك صفحة حياة نضرة مشرقة بدأت في آخر عهد الجاهلية وانتهت في أزهى عصور الفتح الإسلامي.

<<  <  ج: ص:  >  >>