للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأحوال، هي فلتة من فلتات الفكر البشري الذي لا يخلو من ضعف ومن وقوع تحت سيطرة عوامل عواطفه وانفعالاته أحيانًا.

وربما كان السبب الذي دفع ابن خلدون للقول بهذه النظرية يعود إلى هذه الهوة النفسية التي هبط إليها فكره وهو يحرك حجارة شطرنج عرب بني سُلَيْم وعرب بني هلال تبعًا لعواطفه وانفعالاته في ذلك الجو المغربي السياسي المضطرب الملتهب، فقد كان لابن خلدون مطامعه ومطامحه، وكانت له رغباته وأهدافه، وكانت له سياسته ومراميه ونزعاته، وكان في سياسته المغربية متقلبًا، وكان قد ساق عرب بني سُلَيْم وعرب بني هلال إلى حومة هذا التقلُّب ردحًا من الزمن فانساقوا له طائعين، فلما اكتشفوا - واقعيًّا - إن ابن خلدون لم يكن ذا سياسة قويمة حكيمة في تنظيم شئون الدولة، ولم يكن ذا ثبات، فهو اليوم مع الحفصيين وغدًا مع غيرهم نفضوا أيديهم منه، فأحفظه ذلك، فنسج عليهم خيال نظريته هذه حيال نرهم الفوضى والاضطراب والخراب والدمار في البلاد تشنيعًا عليهم، وهو - والحق يقال - وغيره من زعماء المغرب كانوا هم الأساس والقادة والرادة في بث هذه الفوضى وهذه القلاقل، وربما كانت سُلَيْم في عصر ابن خلدون إحدى ضحايا سياسات الزعماء المتفرقين المتنابذين الذين يكيد بعضهم لبعض ما وسعهم الكيد، ويستعين كل منهم بكل ما يمكنه، ومن يمكنهُ الاستعانة به ضد خصمه، فيكيل له الضربات، ويطارده سرًّا وجهرًا حتى يُقْضى على أحدهما.

وقد قدَّم لنا أحد شهود الإثبات ممن لا يرتقي إليهم الشك - قدم لنا دلائل وشواهد واضحة المعالم على أن ابن خلدون كان بنفسه أحد عوامل الاضطراب والخراب اللذين حَلَّا بديار المغرب مما سنأتي بتفصيله إن شاء الله. وهذا الشاهد الحصيف هو الشيخ مبارك الهلالي الميلي، مؤرخ الجزائر، في كتابه: (تاريخ الجزائر في الماضي والحاضر).

ومن آثار العقدة النفسية المتغلغلة في شغاف ابن خلدون حيال بني سُلَيْم وبني هلال خاصة قوله عنهم في كتابه (العبر): "وليس لهم الآن - أي في القرن الثامن الهجري - عَدَدٌ ولا بقية في بلادهم" (١). إن واقع الحال لا يثبت هذا القول،


(١) تاريخ ابن خلدون، ص ٦٣٩، الجزء الثاني، منشورات دار الكتاب اللبناني في بيروت.

<<  <  ج: ص:  >  >>