ومن عَجَبٍ أن نَرى ابن خلدون بعدما اندفع بجرة قلم في تيه سلب العرب كل مقوماتهم من الحضارة والعمران - إلى آخر الشوط، يعود رأسًا على عقب، فيقرر عكس ما سبق أن قرره تمامًا .. إذ يقول ما نصه عن حضارة العرب أنفسهم:(وما كان في القديم لأحد من الأمم في الخليقة ما كان لأجيالهم - أجيال العرب - من المُلْكِ، ودُوَلُ عاد وثمود والعمالقة وحِمْير والتبابعة - شاهدة بذلك، ثم دولة مُضَر في الإسلام: بني أمية وبني العباس) - وهكذا تورط ابن خلدون في نفي باتٍ جازم لأمر معين وفي إثبات له بذاته إثباتًا جازمًا قاطعًا.
إني لتعروني الدهشة من تناقض آراء "مؤسس علم الاجتماع"، إنه في نظريته هذه الخاصة "متهافت" كل التهافت، فقد قضى أولا بحرمان العرب كل العرب من مقومات المُلك والحضارة، ورماهم بكل شنعاء في تخريب العمران الذي يجدونه قبلهم، وفي تقويض دعائمه حتى تعود الأرض المعمورة من قبلهم خرابًا يبابًا موحشًا ومقفرًا، ثم هو نفسه يعود كلية عن هذه النظرية - بدون أن يشير إليها - فيقضي ثانية بنقيض قضائه الأول تمامًا، ويقرر أنه ما كان لإحد من البشر ما كان لأجيال العرب من المُلك كَدُوِلَ عاد وثمود والعمالقة وحِمْير والتبابعة قبل الإسلام، وكَمُضَر بشقيها: الأموي والعباسي في الإسلام. فهذَا نقض تام شامل لما سبق أن قرره.
والله تعالى يعلم حيث يجعل رسالتهُ، ولولا علمه بأن العرب أهلٌ لحمل هذه الرسالة المقدسة الشاملة للبشر كافة ما حَمَّلها الرسول العربي الكريم، وما تحمل أعباء نشرها العربُ إلى أمم الأرض كافة، أما القتل والتخريب فهما أمران ملازمان وشاملان لكل البشر في كل العصور، وناهيك بما حدث للروم وروما واليونان وأثينا، وما بناه العرب من مدن لا يزال باقيًا الكثير منه مزدهرًا بالعمران، موصول الحبل بسالف الزمان، برغم توالي النكبات عليهم وعليه، وَخُذِ القاهرة وبغداد والبصرة والطائف وصنعاء وعدن، وجُدَّة ومكةَ والمدينة، وغيرها مثلًا وشاهدًا مُشَاهَدًا، وليس الخبر كالعيان، وما خططوه ورتبوه من تراتيب سياسة المُلك والعمران، وما شيدوه من مدارس وجامعات كالأزهر وجامعة الزيتونة وجامعة القرويين - في كل ذلك دليل ناهضٌ على أن نظرية ابن خلدون السلبية حيالهم في هذه الشئون لا ترتقي إلى مستوى نظرياته الاجتماعية الأخرى بحال من