العربيتين العريقتين: مكة والمدينة، فقد كان هؤلاء الحاضرة هم ضِئْضئ الإسلام، وقد أسلم بعدهم وبجهادهم تحت راية الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أسلم من البادية والحاضرة معًا، وكما أسلفنا فإنه كانت للعرب قبل الإسلام وقبل تَحَضُّرِ كثير من الأوربيين ممالكُ ومدائن حضرية في غاية التحضر والمدنية في الشمال والجنوب وفي الشرق والغرب .. في البحرين وفي اليمن وفي نجد، وحضارتهم - كما ثبت أخيرًا عن طريق البحوث الأثرية - هي من أقدم الحضارات، ويكفي العرب فخرًا أن يكونوا حاملي ألوية الحضارة الإسلامية الغلَّابة إلى أرجاء العالم، وقد جرت محاولات عديدة عبر الأجيال ولا تزال من أجل القضاء على هذا النور الساطع الفيَّاض، من مختلف أجناس الناس ومذاهبهم ومبادئهم، فباءت جهودهم الحربية والعلمية والسياسية بالإخفاق الذريع. فالإسلام ذو حيوية وطاقة جبارة، فلا يكاد يختفي بعضه في بقعة من الأرض حتى يسطع متوهجًا في بقاع أخرى، وهكذا دواليك، إن الإسلام شُعلة وضاءة من الخالق العظيم أهداها للبشرية لتنجو من متاهات الظلم والظلام، فهو لن ينطفئ نوره أبدًا بإذن الواحد الأحد: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (٣٢)} [التوبة: ٣٢] وصدق الله العظيم.
ورستم الفارسي المجوسي مفترٍ مائق، فما عَلَّمَ عمرُ العربَ الآداب، والعرب من أكرم عناصر البشر، إن الذي علم عمر نفسه الآداب هو محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس كافة، ومحمد علمهُ رب الأرباب كل الآداب، فعلَّمها لعمر ولغير عمر من صحابته الكرام، وللناس كافة من بعدهم إلى يوم الناس هذا وإلى يوم الدين.
وعمر جندي من جنود الإسلام البررة الخيرة، وهو جندي باسل ومغوار حرب، وزعيم إدارة ومُخْتَطُّ حُكْم وسياسة في حرب وفي سلم، وكل ما قام به من ذلك وغيره هو مُسْتَمَدٌّ من "تعليم" رسول رب العالمين إلى العالمين.
وما كان ينبغي لابن خلدون أن يأخذ قول عدو للعرب مهزوم مأزوم في ساعات كربه ومحنته وهزيمته، حُجةً مُسلَّمة على قومه العرب والمسلمين، فالخصم في ساعات هزيمته وفي لحظات كربته يتقول على خصمه الهازم له كل ما لا يَصْدُقُ ولا يُصَدَّقُ، تنفيسًا من صدره الضيق مما يجثم عليه من أثقال الكبت والحقد والبغضاء والحرمان.