للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويمعن ابن خلدون في ركوب بُنيات الطريق فنراه يعقد فصلًا خاصًّا في مقدمته في: "أن العرب أبعد الأمم عن سياسة المُلك"، ويُعلِّلُ هذه النظرية التي قدم بها هذا القصل بأن ذلك لأنهم أكثر بداوة من سائر الأمم (١) ويزيد الطينة بلة حيث نراه يستشهد على صحة نظريته هذه بقول رستم قائد جيوش الفُرس إذ رأى المسلمين يجتمعون للصلاة: (أكل عمر كبدي، يُعلِّم الكلاب الآداب) (٢)، ورستم عدو مبين للإسلام، موتور أكل الحقد قلبه على المسلمين والإسلام - لو يعلم رستم - خيرٌ شامل له وللعالم أجمعه، وكلمته المذكورة هي "نفثة مصدور"، فما كان ينبغي لمن كان في مثل علم ابن خلدون وحصافته الاجتماعية والفكرية ومركزه الديني أن يتخذها مستندًا له في تقرير قاعدة اجتماعية حيوية تشمل العرب والمسلمين. ونعود إلى قوله السالف ذكره: إن السبب الذي جعل العرب أبعد الناس عن سياسة المُلك هو تغلغلهم في البداوة، فنرى أنها كلمة خرجت من فكر ابن خلدون عفويًّا وبدون تمحيص ولا تأمل ولا استقراء لحالة العرب الذين يتحدث عنهم وينتقدهم اجتماعيًّا وحضاريًّا، وليت شعري أية أمة متحضرة لم تمر قبل تحضرها على دور البداوة؟ هؤلاء الأوروبيون المتحضرون اليوم مرت بهم فترات بداوة غارقة إلى أذنيها في وحل البداوة وبأكثر من العرب، وقد وصف أواخرها أو أواسطها لنا المؤرخون من العرب والمسلمين الذين شاهدوا ديارهم واختلطوا بهم في ديارهم إبان الفتوحات الإسلامية، ومن يقرأ مثلًا (رحلة ابن فضلان) رئيس البعثة العلمية التي أرسلها المقتدر العباسي إلى بلاد الروس - روسيا - قبل ألف عام، يَرَ العجائب المدهشة والمذهلة في غرق الروس في حمأة البداوة والهمجية والجهل والتخريف المطبق بأكثر بكثير من بداوة العرب.

والعرب في جاهليتهم، قبل إسلامهم لم يكونوا كلهم بادية، كان منهم دول كبرى منظمة تنظيمًا حضاريًّا راقيًا بلغ ذروة الحضارة الإنسانية في الجنوب والشمال وفي الشرق والغرب من ديارهم، والذين نشروا أعلام الإسلام منهم في المعمورة كانوا أولوا الأمر فيهم وزعماؤهم وقادتهم وغالبية جيوشهم من أهل المدينتين


(١) مقدمة ابن خلدون، ص ٢٦٧.
(٢) نفس المصدر، ص ٢٦٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>