وحينما سمع خُفافٌ هذه القصيدة التي أعلن فيها خصمه وابن عمه "التوبة" عن حرب ضروس أهلية، أضرت بالقبيلة وتشتت شملها وهدت من قواها، اعتبر ذلك علامة ضعف من عباس بن مِرْدَاس، فأجابه بقوله:
أعباسُ إمَّا كَرِهْتَ الحروب … فقد ذُقْتَ من عَضِّها ما كَفَى
أألقَحْتَ حربَا لها دَرَّة … زبونا تُسَعِرُّها باللَّظَى
فلما ترقيتَ في غيها … دحْضت وزل لك المُرْتَقَى
فأصبحتَ تبكي على زلة … وماذا يرد عليك البكا؟
وإن كُنْتَ أخطأتَ في حربنا … فلسنا مُقيِليِكَ ذاك الخَطَا
وإن كُنْتَ تطمع في سلمنا … فَزَاوِلْ ثَبِيرًا وَرُكْنَي حِرَا
وهكذا نرى "خُفافًا" - عَبَّاسًا - حيال خصمه:(عباس) الذي بدا أمامه (بسَّامًا) وقدم له سلامًا - بفتح السين، وقد قابل خفاف سلامه هذا بسلام من قوارص التشنيع والتهكُّم تحمل في طياتها نُذُر الإصرار على مواصلة الحرب الأهلية السلمية بدون تردد.
وأخيرًا، أشرقت الأرض بنور ربها، منبثقًا من مكة والمدينة فسطع على ظلام الجاهلية في قلبي الرجلين البطلين السُّلميين المتناحرين؛ واللذين ماداما امتشقا الحسام على بعض، فهدأ شيطان الجاهلية بين جوانحهما ثم توارى عنهما إلى غير رجعة حينما دخلا حظيرة الإسلام واستظلا بظلها الوارف ونهلا من معينها الغَدَق، وهكذا عاد الاستقرار إلى أنفسهما وإلى القبيلة وعاد إليهما الصفاء، فالإسلام نور وضَّاء للقلوب المظلمة، وروضة غنَّاء للنفوس المكتئبة، يمحو همومها وأدرانها، ويحل محلهما السعادة والهناء والألفة والاطمئنان، والإسلام يَجُبُّ ما قبله.
وقد أطلنا في عرض قصة الخلاف الذي نَشِبَ بين العباس بن مِرْدَاس السُّلَمي، وابن عمه خُفَافِ بن نُدْبَةَ السُّلَمي، وما قيل من نثر وشعر في هذا الخلاف الذي كانت له أصداؤه لدى العرب، فعلنا كلّ ذلك لأسباب في مقدمتها الإلمام بطرف من حياة عرب الجاهلية وألوان تفكيرهم، وكيفية معالجتهم لمشاكلهم، وللدلالة على نفسياتهم وما يختلج بين جوانحهم في ساعات السلم وساعات