الحليم يُعْصى، والسفيه يُطاع، وأرى أقرب القوم إليكما من لقيكما بهواكما، وقد علمتم ما هاج الحرب على العرب حتى تفانت .. فهذه "وائل" في ضرع ناب، و"عبس" و"ذبيان" في لطمة فرس، و "أهل يثرب" في كسعة رجل، و "مراد" و "همدان" في رمية نسر، وأمركما أقبح الأمور بدءًا وأخوفها عاقبة، فَحُطَّا رحل هذه المطية النداء، وانحرفا عن هذا الرأي الأعوج) فَلَجَّا وأبَيَا إلَّا السفاهة، فخلعتهما بنو سُلَيْم، وأتاهما دريد بن الصِّمَّة الجُشَمي، ومالك بن عوف النصري، رأس هَوَازِن - أبناء عمومة سُلَيْم - فقال دريد:(يا بني سُلَيْم إنه أعملني إليكم صَدْرٌ وادٌ، ورأيٌ جامعٌ، وقد قطعتم بحربكم يدًا من أيدي هَوَازِن، وصرتم بين صيد بني الحارث وصهب بني زبيد، وجمار خَثْعم، وقد ركبتما شر مطية، وأوضعتما إلى شر غاية، فالآن قبل أن يندم الغالب، ويذل المغلوب .. ) ثم سكت، فقال مالك بن عوف:(كم حَيٍّ عزيز الجار، مخوف الصباح، أُولِعَ بما أُوْلِعْتُمْ به، فأصبح ذليل الجار، مأمون الصباح، فانتهوا ولكم كفٌّ طويلة، وقَرْن ناطَح، قبل أن تلقوا عدوكم بِكَفِّ جَذْماءَ، وقَرْنٍ أعضَبَ). فندم العباس، وقال:(جزى الله، خُفاقًا والرحم عني شرًّا، كنتُ أخفَّ سُلَيْم من دمائها ظَهْرًا، وأخمصها من أموالها بطنًا، فأصبحتُ ثقيل الظهر من دمائها، مُنْفَضِحَ البطن من أموالها، وأصبحت العرب تعيرني بما كنت أعيرها به، من لجاج الحرب، وايْمُ الله لوددت أني كنت أصَمَّ عن جوابه، أخرسَ عن هجائه، ولم أبلغ من قومي ما بلغتُ)، فلما أمسى تغني:
ألم تر أني كرهتُ الحرو … ب وأني ندمت على ما مضىَ
ندامة زَارٍ على نفسه … لتلك التي عارُها يُتَّقَى
وأيقنتُ أني لِمَا جِئتهُ … من الأمر لابِسَ ثَوْبَيْ خَزَى
وكانت سُلَيْم إذا قَدَّمَت … فَتَّى للحوادث كنتُ الفَتَى
وكنتُ أفيء عليها النهاب … وأنكي عداها وأحمي الحِمَى
فلم أُقِدِ الحرب حتى رمى … خُفَافٌ بأسهمه من رَمَى
فألهب حربًا بأصبارها … فلم أكُ فيها ضعيف القُوَى
فإن تعطفِ القومَ أحلامُها … ويَرجِعُ من ودهم ما نأَى
فلست فقيرًا إلى حربهم … ولابِيَ عن سِلْمِهِمْ من غِنَى