فما زلت أساقطه الحديث مرّة أُنْشيء ومرة أُجيبُ، حتى جئنا مدينة القيروان فمال إلى دار الإمارة، وذلك يوم الجمعة، فألفي العباس بن ناصعة الكلبي قد تهيأ لشهود الجمعة ولبس ثيابه، فقيل له: هذا عبيدة قد قدم أميرًا، فقال:(لا حول ولا قوة إلَّا بالله، هكذا تقوم الساعة بغتة!) فألقى بنفسه فما حملته رجلاه، ودخل عبيدة بن عبد الرَّحمن يجمع النّاس، وأخذ عُمَّال بِشْرٍ فحبسهم وأغرمهم وتحامل عليهم وعذب بعضهم، وكان فيهم أبو الخَطَّار بن ضرار الكلبي، وكان قائدًا جليلًا ورئيسًا شريفًا في قومه، مع فصاحة وبيان وقَوْلِ حَسَنِ الشِّعْرِ، وَوَلِيَ في أفريقية ولايات كثيرة في إمارة بشر بن صفوان، وولي بعد ذلك إمارة الأندلس.
فقال:
أفادت بنو مروان قيسًا دِمَاءَنَا … وفي الله إن لَمْ يعدلوا، حَكَمٌ عَدلُ
وقيناكُمُ حرَّ القنا بصدورنا … وليس لكم خيل سوانا ولا رَجلُ
فلما بلغتم نيل ما قد أردتمو … وطابت لكم فيها المشارب والأكلُ
تغافلتمو عنا كأن لَمْ نَكُنْ لكم … صَدِيقًا وأنتم ما علمت لنا وصلُ
وبعث بها إلى "الأبرش الكلبي"، فدخل على هشام وقرأها، فغضب هشام، وأمر بعزل عبيدة بن عبد الرَّحمن عن إفريقية، فقفل منها، واستخلف على أفريقية عُقبة بن قدامة التجيبي وذلك في شوال سنة أربع عشرة ومائة، ووليَّ هشامُ بن عبد الملك على أفريقية، عبيد الله بن الحبحاب مولى بني سلول" (١).
وهكذا كانت عاقبة ولاية عبيدة السُّلَمي، لَمْ يصانع في أمور كثيرة كان على مثله أن يصانع فيها، ليظل في إمارة هذا القطر النائي عن دار الخلافة أطول مدة ممكنة، لقد تعجل وطغت عاطفته ونزعاته القبلية على عقله وحكمته، فكانت
(١) تاريخ أفريقية والمغرب، ص ١٠٤ - ١٠٦، طبع تونس. ونرى أن تولية هشام لعبيد الله بن الحبحاب الإفريقية كانت ضربة سياسية بارعة. فعبيد الله بن الحبحاب مولى ولا عصبية له، وليس له من يفئ إليه سوى هشام، وقد تخلص بتوليته من تقديم أحد الفريقين المتنازعين المتنافسين على الآخر، وهما: بنو قيس وبنو كلب على السواء.