هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد يكون الشاعر المفلق "أشجع" ذهب به التأثر من فراق صديقه ومُسْدِي جم الإحسان إليه: "جعفر البرمكي" - إلى أن يبدأ قصيدة تهنئته هذه العظيمة له بمعاني الفراق والجزع، وخلو الديار وتفرق أهل الهوي، وكثرة الباكين والمسترجعين لفراقهم لهذا الغيث المنسجم والربيع الخصب الممرع، والروضة الغناء التي كلّ ثمارها يانعة بالكرم والجود .. ولكن فاته أهم شيء وهو "اللماحية" التي يحتاج إليها الشعراء دائمًا وهم يمدحون العظماء، فإن العبارات المتشائمة الحزينة الباكية التي جعلها مقدمة قصيدته المهنيئة لا يحسن بمثله. - على كلّ حال - أن يتفوه بها ولا أن يقدمها بين يدي قصيدة يهنئ بها عظيمًا صديقًا وُلِّيَ منصبًا كبيرًا؛ لأنَّها عبارات تشاؤم تحمل ولابد إلى الممدوح ريحًا كريهة من النكد والتقزز والانزعاج الخفي من المستقبل الذي رسمته له هذه الأبيات، إنها عبارات تغلق شهية المديح، وتفتح باب الانكماش والشؤم من المنصب الذي قوبل بهذه الألفاظ المكروهة المسمومة، وكان الأجدر باشجع أن يكون شاعرًا لبقًا يعرف من أين تؤكل الكتف، فيُبعد جدًّا ممدوحه عن سماع هذه النغمات الحزينة الممرضة، ويقدم إليه بدلًا عنها باقات نضرة فواحة باسمة بالأمل والرجاء، وبالأماني المعسولة بدوام العز والبهجة والحبور، وبانتظام الشمل وكثرة الأفراح والليالي الملاح، وأن يفرش الأزاهير والورود الفوَّاحة بين يدي مديحيته العصماء، في أرضها وفي الأجواء
وإني أعتقد أن جعفرًا - وهو مثقف وذو إحساس أدبي مرهف، لابُدَّ أن يكون في قرارة نفسه غير مستحسن لهذا المطلع الأسود القاتم العابس في وجه مستقبله الذي يرجو أن يكون كله باسمًا ومشرقًا وعبقًا، والبلاء كما يقولون: موكل بالمنطق .. فقد وقع كلّ ما جاء في مقدمة قصيدة أشجع وإن كان غير قاصد له ولا مريد ولا راغب فيه، فَنُكِبَ البرامكة نكبة تاريخية هائلة، وتفرق عنهم الأحبة، وآضَتْ ديارهم بعد عمران زاهر، بَلَاقِعَ تندب حظها وحظهم، وبكاهم الباكون واسترجع المسترجعون، ورثوا عزهم الآفل ومجدهم الزائل. ورحم الله الشاعر "أشجع" المخلص لجعفر البرمكي وغفر له، حيال ما قدمه لممدوحة الأثير لديه - من الإنذار، بالمستقبل المظلم العاب المكفهر، بعد الحاضر الناضر المزدهر، على طبق زمردي رائع من قصيدته هذه البليغة الساحرة.