فتشاور طرود في ذلك فاختلف رأيهم، فأشار عليهم بعضهم بعدم الذهاب إليه وقال لهم: نحن قوم لا ولاية لأحد علينا ونريد اتساع المكان فلا تضيقوا علينا ما وسعه الله، فرجع قوم ترشيش من غير فائدة، ثم رجعوا لطرود مرة ثانية قائلين لهم: إن الأمير ضمن لكم جميع ما تطلبونه منه إن أتيتموه لتكونوا عونا له على بعض الثائرين، وتكونوا من المقربين عنده المحظوظين بفوائده وموائده، فذهب إليه منهم وفد مؤلف من أربعمائة رجل، فلما وصلوه قام لهم إجلالا وعظم منزلتهم وأكرمهم إكراما واسعا، فأقاموا هناك ثلاثة أيام فلما أرادوا الانصراف والرجوع لإخوانهم أعطى كل واحد منهم كسوة تليق به وقال لهم: غدا يلحق بكم بعض عمالي فيعطيكم أرضا واسعة وينزل كل قبيلة منكم على حدتها ويفرض لخيولكم المئونة ومن مات له فرس يعطيه عوضها وكونوا معي في كل حال، ويجعل لكم سوقا تجتمعون فيه كل أسبوع باسمكم، فافترقوا على هذا الأمر وأخذ عنهم البيعة.
قال القدماء: فلما رجعوا إلى أهليهم وإخوانهم أخبروهم بما كان من صاحب ترشيش فقالوا: إن هذا الرجل قد عزم على استئصالكم وقطع دابركم من الأرض؛ وذلك أنه أراد أن يجعل كل قبيلة منكم في محل وحدها لتتفرقوا وتتفرق كلمتكم ويقل عددكم فيهلككم شيئا فشيئًا.
وفي رواية أخرى أنه حين بعث لهم صاحب ترشيش ورغبهم بما تقدم يخبرهم بذلك رسله على لسانه تحيروا وتحيلوا لما يعلمونه من الصداقة بينه ويين عامل قابس وقد أضروا برعيته وتجاسروا على عامله، ثم حين رغبهم ثانيا انخدعوا وظنوا أنه بريء الساحة من ذلك الأمر، فأشار عليهم مسروق بعدم الذهاب فخالفوه وحينئذ أي حين عزموا على المسير إليه أرسل معهم ابنا له نجيبا فطنا وأوصاه بأن يحفظ ما يقوله لهم عند الانصراف ولا يحفظ ما بين ذلك ولو طالت إقامتهم عنده، فلما قدموا عليه قال لهم: مرحبا بكم أيها المنافقون (أي الخارجون عن الطاعة) ثم أكرمهم وأضافهم ثلاثة أيام، وعند الانصراف أعطاهم حللا وقال لهم: في أي محل تركتم أهليكم حين جئتم؟ فقالوا بنواحي المهدية، فقلا لهم: وهل به إلى الآن أم انتقلوا عنه إلى غيره؟ فقالوا أنهم به إلى هذا الوقت، فلما وصلوا فرحت الأعراب بسرور الأمير بهم وإكرامه إياهم وصفاء قلبه عليهم،