وقد استطاعت الدول الجديدة أن تثبت الأمن وتفرض السلطة، وعملت من الساعات الأولى على تنظيم الحكومة والإدارة فعُيِّن الوزراء والحجاب وأنشئت الدواوين وعُبِّئت الجيوش وضربت السكة، وأرسل العمال والقضاة والجباة إلى المدن والقرى ورُتبت المسالح بالحدود والثغور، وكان التنظيم يبني على أسس عربية صرفة ويعتمد فيه تقليد نظام الخلافة في بغداد حتى لدى الدول البربرية الصرفة المنعزلة في الصحراء والبعيدة عن مجالات العرب كدولة بني مدرار بسجلماسة، وقد أغرى قيام هذه الدول أنصارها الدينيين والسياسيين على الهجرة إليها من البلاد العربية، فهاجر أنصار بني أمية زرافات ووحدانا إلى الأندلس، وهاجر الشيعة إلى فاس للإقامة في كنف الأدارسة، وهاجر الخوارج إلى سجلماسة وتيهرت، واستمر الذاهب والآيب ما بين بغداد والقيروان نظرًا للصلات الوثيقة التي كانت تربط إمارة بني الأغلب بخلافة بني العباس، وكان المهاجرون إلى البلاد المغربية من طبقات ممتازة تنتمي في الغالب إلى عالم الجيش والإدارة والمال أو إلى دنيا العلم والفقه والأدب، وكذلك صار لكل خليفة أو سلطان أو أمير شعراء ينظمون مفاخره، وكُتَّاب يُعبِّرون عن أغراضه، ومعلمون يُعلِّمون أمراء بيته، وعلماء يحتجوُّن بالدين لتثبيت سلطانه، وفقهاء يعظون بحضرته، ومؤلفون يكتبون أيامه ووقائعه، وأقبل أهل البلاد الأصليون (البلديون) يكرعون من مناهل العلم الصافية وحياض الأدب والثقافة الثرة، تارة يكتفون بمن كان بين ظهرانيهم من العلماء والفقهاء المهاجرين، وتارة يسافرون لطلب العلم بمراكزه الكبيرة بالحرمين ومصر والشام والعراق فيعودون مملوئي الوطاب علمًا وأدبًا وحكمة، وكان الحجّ إلى بيت الله الحرام من أقوى الأسباب في اتصالهم بأئمة الفقه والأدب بأقطار الشرق وتقوية الصلات العلمية بينها وبين أقطارهم المغربية، وبالجملة فإن القرن الثاني الهجري لَمْ يكد ينصرم حتى كانت مدن الغرب الإسلامي القيروان وطبنة وتلمسَان وتيهرت وسجلماسة وسبتة وفاس وقرطبة وطليطلة وباجة وطرطوشة تنافس مدن الشرق الإسلامي كالفسطاط والقدس ودمشق والحرمين والبصرة والكوفة وبغداد علمًا وأدبًا وعمرانًا وحضارة، وحتى أخذت البلاد المغربية تسير بخطى ثابتة في طريق الاستعراب دون تعثر أو نكوص.