فاعتقد معاوية أن الأبيات لابنه، فسر بذلك كثيرا، ولما صارت الخلافة إلى يزيد وفد عليه جرير، فاستؤذن له مع الشعراء فجاء الجواب بالنسبة لجرير: إن أمير المؤمنين يقول لا يصل إلينا شاعر لا نعرفه ولم نسمع شعره، فأجاب جرير: قولوا للخليفة أنا القائل: بأي سنان تطعن القوم بعدما. فأمر يزيد بإدخاله وقال له: لقد فارق أبي الدنى وما يحسب إلا أني قائلها.
سأل عكرمة أباه جريرا عن شعراء الجاهلية فذكر جرير زهير بن أبي سلمي.
فقال عكرمة: الإسلام؟ قال جرير: الفرزدق نبعة الشعر.
قال: فالأخطل التغلبي يا أبتاه؟ قال: يجيد مدح الملوك ويصيب صفة الخمر.
قال: فما تركت لنفسك يا أبت؟
قال: دعني فإني نحرت الشعر نحرا (استمكانا منه واقتدارا عليه).
وقدم جرير المدينة المنورة، وأتاه الشعراء وغيرهم، وأتاه أشعب فيهم، فسلموا عليه وحادثوه ساعة، وخرجوا وبقي أشعب.
فقال جرير: أراك قبيحا وأراك لئيم الحسب، ففيم قعودك؟
قال: أصلحك الله، أنه لم يدخل عليك اليوم أحد أنفع لك مني.
فقال جرير: وكيف ذلك؟ قال: لأني آخذ رقيق شعرك فأزينه بحسن صوتي واندفع يغني:
يا أخت ناجية السلام عليكم … قبل الرحيل وقبل لوم العذل
لو كنت أعلم أن آخر عهدكم … يوم الرحيل، فعلت ما لم أفعل
فاستخلف جرير الطرب لغنائه بشعره حتى زحف إليه وسأله عن حوائجه فقضاها له.
وكان الخليفة عمر بن عبد العزيز لا يهتم بشعراء الغزل والمديح ولا يكرمهم ولم يعط إلا جريرا فقد دخل عليه وهو يقول:
إن الذي بعث النبي محمدا … جعل الخلافة في إمام عادل
وسع الخلائق عدله ووفاؤه … حتى ارعوى وأقام ميل المائل
والله أنزل في القرآن فضيلة … لابن السبيل وللفقير والعائل
إني لأرجو منك خيرا عاجلا … والنفس مولعة بحب العاجل