فبلغت الأبيات كوثرًا، فرحل من وقته حتى وافي الحي فوقف عند باب أمه، ودعا بامرأته فطلقها، وحلف أن لا يجلس حتى ترحل، وتغيب عن عينه، فما جلس حتى ساقها السائق وقادها القائد، فضرب المثل بعزيمته فقيل: أجَدُّ من عزيمة كوثر". انتهى.
ولا بأس من إطراف القارئ بخبر أورده صاحب "الأغاني" ليس من المستبعد أن يكون مختلقًا، ولكن فيه ما يخفف من جفاف البحث، نقل عن إسحاق الموصلي. أنه قال: وقف على بَشَّار بعض المُجَّان، وهو يُنشِد شعرًا، فقال له: استر شِعرَك هذا كما تستر عورتك! فصفق بشَّار بيديه، وغضب، وقال له: ويلك ومن أنت؟ قال: أنا -أعزك اللَّه- رجل من باهلة، وأخوالي سَلولُ، وأصهاري عُكْلُ، واسمي كلب، ومولدي بأضَاخ، ومنزلي بظفر بلال، فضحك بشار، وقال: اذهب -ويلك- فأنت عتيق لُؤْمك قد علم اللَّه أنك استترت مني بحصون من حديد. انتهى. ولا أستبعد أن يكون هذا الخبر من اختلاق الموصلي أو لعله من كُتّاب شيخه أبي عبيدة في "مثالب باهلة" الذي ألفه إبان تكالب الشعوبيين على الأصمعي وقبيلته باهلة.
ولم أجد نصًّا صريحًا من نصوص العلماء يدل على احتراف هذه القبيلة الكريمة حرفة منبوذة عند العرب، مع أنه شاع بين المتأخرين من أهل عصرنا أن قبيلة باهلة كانت تصنع البرم (جمع بُرْمَةٍ) وهي الأواني التي كان يطبخ بها إلى عهد قريب، وكان معدنها في بلدة (أضاخ) البلدة المعروفة بقرب بلدة نَفْء (نَفْي) في عالية نجد، وليس هذا من المستبعد، فقد كان معدن البرم قريبًا من بلاد باهلة،