بل كان مجاورًا لبلاد إخوتهم من غني، والقبيلتان كثيرًا ما تشتركان في المنازل، بل إن عمل البرم كان معروفًا حتى عصرنا في جهة أضاخ، وما يقربه من القرى كالأثلة ونَفْي.
ثم أية غضاضة بأن تمتهن باهلة حِرْفَةً من الحرف الحضرية، كالصناعة والزراعة وغيرهما؟! إن نظرة العرب القائمة على احتقار الصناعات نظرة ليست مستقيمة، بل هي متأثرة بحياة طبيعتهم الأولى عندما كانوا يعيشون على الكر والفر والسلب والنهب، فهم لا يرغبون الارتباط بالأرض في أي عمل من الأعمال، من حراثة أو صناعة، بل يحتقرون ذلك، ويتبعون ما يجدون فيه حياة لإبلهم وأنعامهم، ومنأى عن أعدائهم، وإذا وجد في بلادهم التي استقروا فيها قبيل الإسلام من يمتهن شيئًا من الحرف فإن نظرتهم إليه بالاحتقار لم تتغير. وقد أشار ابن خلدون في مقدمته (١) إلى أن العرب أبعد الناس عن الصناعات.
وبالإجمال فإن الحضارة لا تقوم إلا على أساس المهن الناشئة عن الاستقرار والتحضر وقد جاءت الأديان بالحث على الأخذ بها، وهناك من الأنبياء -عليهم السلام- من كان ذا حِرْفَةٍ، فداود -عليه السلام- كان حدادًا يصنع الدروع، قال اللَّه -عز وجل- في حقه: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ. . . (١١)} [سبأ].
ونوح -عليه السلام- كان نجارًا، فقد صنع السفينة بأمر اللَّه سبحانه وتعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا. . . (٢٧)} [المؤمنون].
ومحمد -صلى اللَّه عليه وسلم- اشتغل بالتجارة وهي من مقومات أعمال الحضارة، فأي وصمة لهذه القبيلة حين توصف بأن منها من يحترف الصناعة، في وقت كان العرب يحتقرونها، بل إن هذا مما يدل على أنها بلغت من الوعي وعمق الإدراك وسعة المعرفة ما جعلها تستفيد من وسائل الحياة الممكنة، ولا تقتصر على ما ورثته عن الآباء والأجداد من أمور الحياة كالبداوة وما ينشأ عنها.
(١) "مقدمة ابن خلدون" ٢/ ٤٨٦ ط الدار التونسية سنة ١٩٨٤ م.