والدهشة؛ لأن المهدي كان يحكم فعلا في كردفان، إذ اصبح محمد أحمد بالفعل - بعد موقعة شيكان - سلطانا معنويا على السودان كله وسلطانا فعليا على جميع السودان الغربي فهل يحفل بعد بلقب "سلطان كردفان" من حكومة جرد سيفه لقتالها وقهر جنودها المرة بعد المرة؟ ثم ما هي الفائدة في إخلاء السودان في مثل تلك الأحوال سوى إظهار العجز امام المهدي وحمل الأهالي الذين كان لهم بقية أمل في الحكومة على تركها نهائيا والانضمام إلى المهدي قبل فوات الفرصة.
لقد كانت هذه الإجراءات منذ بدايتها وحتى وصوله إلى بربر خاطئة وخطيرة ساعدت على مزيد من انتصارات المهدي وتجمع الأهالي حوله وإظهار الحكومة بمظهر الضعف.
ويعلق شكري على هذه الأحداث بأن إطلاع حسين باشا خليفة مدير بربر على كتاب الخديو توفيق لغوردون أو ما صار يعرف بالفرمان السري "خطأ تقدير". حقيقة أن غوردون لم ينشر رسميا، أي يصدر منشورا أو إعلانا يتضمن نص هذا الفرمان الخديوي أو فحواه، ولكن كان كافيا أن يطلع غوردون هؤلاء الأعيان في هذا الاجتماع السري لينتشر الخبر بسرعة كبيرة؛ ولذلك فقد وصف ستيوارت هذا العمل من جانب غوردون بأنه "قفزة في الظلام" Leap in the dark وأشار إليه السير ريجينالد وينجت Reginald wingat حكمدار السودان (١٨٩٩ - ١٩١٦) بأنه "المنشور ذو الأثر المميت الذي أضاع السودان". أما غوردون نفسه فقد اعترف بهذا الخطأ الذي ارتكبه في بربر فكتب في "جورناله" وقد اشتد عليه الحصار في الخرطوم في ٩ نوفمبر عام ١٨٨٤ "إذا حصل المهدي على هذا الفرمان (السري) لازدهى بنفسه عجبا وخيلاء. ومع هذا فقد يكون قد عرف به لأني اطلعت عليه - وأنا لا علم لي جيدا بمحتوياته - حسين باشا خليفة"(١).
ويتساءل سلاطين باشا حول هذه الحادثة قائلا: ما الذي أغرى غوردون بإذاعة هذا المنشور والإعلان فيه إخلاء الحكومة المصرية للسودان، وقد نصح له
(١) محمد فؤاد شكري: مصر والسودان - تاريخ وحدة وادي النيل السياسية في القرن التاسع عشر. ١٨٢ - ١٨٩٩. ص ٣٢٧.