الحاضر وجود الحيوان الجرثومي وهو لا يراه بالعين المجردة، لأن العلم أثبته ولأنه يُرَى بالمجاهر المكبرة في المختبرات العلمية، فلولا تلك الأمور الخفية - على ما نرى - لبردت حديدتهم إزاء المعز بن باديس والي إفريقية الشمالية ومن وراءه ومن جاء بعده، ولكن هذه الأمور الخفية ضاعفت من حماستهم وقوت من عزائمهم، ودفعت بهم دفعًا إلى خوض المعارك في كل اتجاه، حتى إذا استتب الأمر على النحو الذي فصله المؤرخون رأينا من بني سُلَيْم وبني هلال - بعد تلك الأعاصير المذهلة - جماعات من الزُرَّاع والصُنَّاع والعلماء ساهموا مع إخوانهم المواطنين المغاربة في الحياة وفي المرافق الخاصة والعامة، ولا يمنع هذا من وجود فئات منهم ظلوا على ما كان عليه أسلافهم من النهب والسلب والاعتداء، فلكل عام خاص.
وعجيب أن يستدل ابن خلدون على عدم صلاح الأمة العربية للعمران بظلم الحجاج بن يوسف الثقفي؛ فالحجاج بن يوسف - كما وصفه التاريخ العربي وكما وصمه العرب المعاصرون له ومن جاءوا بعدهم - هو ذو طبيعة متعطشة للدماء ومغرمة بالعسف، عنده مركب نقص كبير، هو (ظالم) والظلم كما هو معلوم مقوِّض للعمران ومرهق للإنسان، فقياس الكليات بالشواذ، ووضع الشواذِّ معايير للكليات فيهما مُنْزَلَقُ رأي ابن خلدون، ونقطة اختلال موازين قاعدته، فأين الحجاج مثلًا من عمر بن الخطاب منشئ مدينتي البصرة والكوفة؟ وأين هو من أبي جعفر المنصور منشئ مدينة بغداد التي لا تزال قائمة إلى اليوم؟ وأين هو من عبد الرحمن الناصر منشئ مدينة الزهراء في الأندلس؟ وأين هو من غيره من حكام العرب وملوكهم العادلين بُنَاةِ المدائن ومؤثلي الحضارة؟ والحجَّاج على ما فيه من شذوذ مقوِّض ومجحف فقد أسهم في تأثيل العمران ببنائه مدينة واسط في العراق، وهذا نفسه ينقض رأي ابن خلدون حتى في الحجاج نفسه، ولا نرتاب في أن "العقد النفسية" المركبة المتفاعلة لدى ابن خلدون هي التي جعلته يركب هذا المركب فتخرج به راحلته عن الجادة ويسلك بُنيات الطريق، يقول: "وانظر ما ملكوه - يعني العرب - وتغلبوا عليه من الأوطان، من لدن الخليفة كيف تقوَّص عُمرانه وأقفر ساكنه، وبُدِّلت الأرض فيه. غير الأرض، فاليمن قرارهم خراب، إلَّا قليلًا من الأمصار، وعراق العرب كذلك قد خرب عمرانه الذي كان للفُرس أجمع، والشام لهذا العهد كذلك، وإفريقية والمغرب - وهذا هما أساس نظريته