نحن البشر واختفاؤها عن حواسنا ومدركاتنا لا ينافي وجودها ولا يقتضي عدم وجودها، وأعني بهذه العوالم الخفية من مُحَسَّاتنا البصرية: الملائكة والجن، وما جاز على المثل - من ناحية الاختفاء عن أبصارنَا مع ثبوت الوجود - يجوز على المماثل، وما دامت الجراثيم قد ثبت وجودها على أرضنا وثبتت حياتها معنا وحولنا وفوقنا وتحتنا، وثبت أننا كنا في جهل مطبق حيال وجودها وتكاثرها المريع على سطح الأرض مع أنَّها حيوان مثلنا، فبالأحرى أن يثبت لدينا وجود الملائكة والجن، برغم عدم رؤية أبصارنا لها، إذ عدم رؤيتنا للجراثيم والذرة والكهرباء ثبت أنه لا ينهض دليلًا على عدم وجودها، بل ثبت أنه قام دليلًا على عدم وجودها، وما ينطبق على الجراثيم الحيوانية المائجة حولنا ينطبق على ما هو أبلغ منها شفوفًا وروحانية وخفاءً عن الأبصار البشرية، وما صنعته أيدي النّاس وعقولهم من الآلات هو الذي كشف لهم بأخَرَةٍ عالم الجراثيم الصغير الكبير الخطير، فالملائكة والجن أشف كيانًا من الجراثيم وأعمق استتارًا من الجراثيم عن العيون وعن وسائل الإدراك البشرية المادية؛ ولذلك يراهم صفوة الخَلْق من الأنبياء، ويرى الجِنَّ ذوو الشفافية الروحانية وبالمناسبات إذا تشكلوا بأشكال غير أشكالهم الطبعية المبالغة الشفوف والاحتجاب.
وعباس بن مِرْدَاس لا يوجد سبب مادي أو أدبي يدعوه إلى اختلاق هذه القصة، فإنه إذا أراد، آمن بالرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمجرد تصديقه برسالته، كما فعل كثير غيره من مشركي العرب الذين ضربوا بالشرك والوثنية عرض الحائط جهارًا نهارًا، ورفضوا عبادة الأصنام بإصرار وحماسة ودخلوا في الإسلام وآمنوا برسالة محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمجرد إيمان قلوبهم وعقولهم بها وبه، ولا حاجة مطلقًا ولا ضرورة ملجئة لعباس إلى أن يخالق قصة وهمية خيالية لإسلامه كهذه القصة، وقد آمن برسالة محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكابر السُّلميين وغيرهم دون وقوع قصص كهذه لهم.
هذا، وتمضي بنا قصة إسلام العباس بن مِرْدَاس، فتفيدنا بأنه كانت تحته "حبيبة بنت الضحَّاك بن سفيان السُّلَمي" أحد بني رعل، وقد خرج العباس حتى انتهى إلى إبله، وهو يريد النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبات بها، فلمَا أصبح دعا براعيه فأوصاه بإبله، وقال له: (من سألك عني فحدثه أني لحقت بيثرب، ولا أحسبني إن شاء الله تعالى إلَّا آتيا محمدًا وكائنًا معه، فإني أرجو أن تكون برحمة من الله ونور،