للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

خصمه وابن عمه: خُفاف بن ندبة، ولا يقوم بأعباء حرب كهذه إلَّا رجلٌ قوي البِنْيَةِ مكتمل الشباب والفتوة:

وظل العباس بن مِرْدَاس على بداوته - بعد الإسلام - كان أليف الفيافي، فلم يسكن بعد إسلامه مكة ولا المدينة، ولم يُقِمْ في أي بلد إقامة دائمة، وكان إذا حضر إحدى غزوات النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يلبث أن يعود بعدها إلى مضارب قومه في قلب البادية، يستنشق نسيمها العليل، ويأنس بنغمات طيورها البرية، ويرتاح إلى عشبها وأشجارها، ويهفو إلى صحوها وغيمها، ويغرم بصحاراها وجبالها وأوديتها، وقالوا: إنه قدم البصرة مع من قدموا إليها من قومه بعد تمصيرها في خلافة عمر بن الخطاب، ولكنه لَمْ يتخذها موطنًا، كما اتخذها غيره من بني عمومته، بل إنه عاد لسكني البادية التي تخفق الأرواح في أبياتها الشَّعَرَيَّة أو الجِلْدِيَّة، وكان منزله بالعقيق مما يلي سفوان.

وقد حرَّم على نفسه الخمر وهو في الجاهلية، وهذه مزية نفسية تدلنا على أنَّه كان لبيبًا وذا رأي قويم في بعض الأمور الضارة أو النافعة للصحة العامة والخاصة، وللمروءة والكرامة الإنسانية، فالخمر أُمُّ الخبائث وشُرْبُها يؤدي إلى ارتكاب المحرمات الأخرى؛ لأنَّها تسلب عقْلَ العاقل وكرامة الكريم ولُبَّ اللبيب، وقليل هم الذين حرموها على أنفسهم من عرب الجاهلية في الفترة الأخيرة، لشفوف أذهانهم وانجلاء بصائرهم وتفهمهم لعواقبها الوخيمة على الفرد والمجتمع.

توفي العباس بن مِرْدَاس في الشام سنة ١٦ هـ وله من الأولاد: جاهمة أو جلهمة وله صحبة، وأُبيٌّ، وسعيد. ومن ذرية جاهمةَ، عبدُ الملك وهارون ابنا حبيب، ومن ذرية سعيد، بكار بن أحمد بن عبد الله بن سعيد المُحدِّث العابد، مات بمصر.

خصائص شعره

يمتاز شعر عباس بن مِرْدَاس بالطراوة والطلاوة مع الوضوح، ومع أنه بدوي موغل في البداوة أليف صحراء ووهاد ونجود، ورب سيف وخَوَّاض معارك، فإن شعره الذي بين أيدينا كان رطبًا سلسًا خفيف الروح، لا تجد فيه شيئًا من

<<  <  ج: ص:  >  >>