جفاف البداوة، ولا شيئًا من عنجهية الجاهلية، ويمكن أن نشبهه في هذه الناحية بالنابغة الذبياني من غَطَفَان، مع الاختلاف بينهما في سعة الأفق، وفي أن النابغة قد يقول من الشعر ما لا يختلف عن أضرابه في كزازة اللفظ وجهامة التعبير بعض الأحيان. وفي ديوان شعره شواهد واضحة على هذا المسلك الجاهلي الماثل في كثير من الشعر العربي الجاهلي، إلى جانب شعره الرطب السمح الجميل.
ونحن نتحدث هنا (خاصة) عن شعر عباس بن مِرْدَاس قبل إسلامه، أما شعره بعد الإسلام فقد صقلته تعابير الإسلام، وصقله وهذَّبه الإسلام، ومصطلحاته الرائعة الجديدة على دنيا العرب وحياتهم.
نماذج من شعره الجاهلي
كان قيس بن شيبة السُّلَمي من رهط العباس بن مِرْدَاس باع بمكة متاعًا من أُبَيٍّ بن خلف القرشي، فلواه وذهب بحقه، فاستجار برجل من بني جُمَح فلم يُجِرْهُ، فقال قيس:
يا آل قصي كيف هذا في الحرم … وحرمة البيت وأخلاق الكرم!
أُظلم لا يُمنع عني من ظلم
فبلغ العباس بن مِرْدَاس قوله، فقال:
إن كان جارك لَمْ تنفعك ذمته … وقد شربت بكأس الذل أنفاسا
فَأتِ البيوت وكن من أهلها صَدَدًا … لا تلق نادمهم فُحشًا ولا بأسا
وثم كن بفِنِاءِ البيت معتصمًا … تلق ابن حرب وتلق المرء عباسا
قَرْمَيْ قريش وحَلًا في ذؤابتها … بالمجد والحزم ما عاشا وما ساسا
ساقي الحجيج وهذا يا سر فلج … والمجد يورث أخماسًا وأسداسا (١)
ويبدو أن قيسًا أخذ بنصيحة عباس بن مِرْدَاس فرد العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن حرب عليه ماله، وكان ذلك سَبَب حلف الفضول الذي قام على رد المظالم.
(١) ديوان العباس بن مِرْدَاس، جمع وتحقيق الدكتور يحيى الجبوري، ص ٧٥ و ٧٦، طبع بغداد. وقول العباس في أبيات الشعر السينية: (وكن من أهلها صددًا) أي كن قريبًا من أهلها.