الحكام؟ ومتى كان البدوي الحر يطعن أخاه البدوي في ظهره بدون سبب أو ثأر، بينما المهاجمون يطعنون بلا شفقة ولا رحمة في صدره، ومتى يا عربان كانت المصاهرة والرحم والقرابة في الأصل بين العشائر تؤدي إلى خيانة الدم والخروج على شيمة ونخوة البدو وتقاليدهم؟ ألا كُفُّوا عن القتال يا ولد علي ولا تلوثوا أيديكم بدم إخوتكم من الجوازي، فهذا عار يلحقكم إلى آخر الزمان، فالدم الذي تريقونه هو دمكم، والمضارب التي تهدمون رواقها هي مضاربكم، والبيوت التي تخلعون طنابها هي بيوتكم، وواصلت المرأة صراخها في صفوف فرسان أولاد علي تقول صائحة: إننا نقاتل في سبيل هذه البرانس التي تلتحفون بها، وهذه الطرابيش التي تُزينون بها رؤوسكم، إنها زي آبائكم وأجدادكم الذين هم آباء وأجداد الجواري، فما إن انتهت سكينة من قولها حتى لوى فرسان أولاد علي على الفور عنان خيولهم منسحبين من الميدان، وقد عرفوا ألَّا يليق بهم قتال إخوانهم الجوازي وأن سكينة صادقة في قولها، وفتح انسحابهم ثغرة كبيرة في جبهة الجيش، فلما رأى قائده أن جيشه انكشف ويمكن اختراقه وتمزيقه أصدر أمرًا بوقف القتال مع الجوازي والارتداد إلى الخلف، وظل عمَّار المصري ورجاله صامدين كالأسود في وسط غبار الميدان، وارتفعت وسط ضجيج العساكر وقرقعة السلاح وصهيل الخيول زغاريد البدويات الفرحات المهلَّلات، وكانت سكينة زوجة بكر في طليعة المزغردات ولكن فرحتها في ذلك اليوم لم تتم على أكمل وجه، بل شاءت الأقدار أن تُنغِّص على المرأة الباسلة تكبيرها وتهليلها، فقد سقط بكر زوجها قتيلًا في حومة الوغى بطعنة فارس شركسي، وعجزت زوجته الطبيبة المداوية عن إنقاذ حياته بالرغم مما بذلته من عناية وما تفننت فيه من سُبُل من ابتكار عقاقير بكل مهارة لوقف نزيف دمه، ولكن خانها الحظ ذلك اليوم الذي كانت فيه أشد ما تكون حاجة إليه كي تنتزع من مخالب الموت أعز إنسان عليها في الوجود. وبعد أن زغردت النساء للنصر انصرفن إلى ندب القتلى ومواساة الجرحى، وبكت سكينة البدوية زوجها وعولت منذ تلك اللحظة على الرحيل إلى قومها من أولاد علي.