كانت تؤخر، وإذا راحت يقول لها: مسيت يا سخيلة، ففي تلك الليلة راحت مؤخرة ولم يقل لها شيئا، ورأت سهره وتفكيره فقالت له: ما عراك؟ (أي ما أصابك)، فقال لها: دعيني وشأني. فأعادت عليه، فقال لها: ويلك قد اختصم إليَّ في خنثى له ما للذكر وما للأنثى أيجعل في ميراثه رجلا أم امرأة فقالت له: لا أبالك أقعده يبول فإن بال من حيث يبول الرجل فهو رجل وإن بال من حيث تبول المرأة فهو امرأة. فقال لها: مسى سخيل بعدها أو ضحى، فصار هذا مثلا. ثم خرج فقضى بالذي أشارت عليه (١).
أقول: وهكذا الحكم به في الشرع فإن بال من أحد السبيلين يعطى حكمه، أو بال من أحدهما أكثر من الآخر فالحكم للأكثر، أو بال من أحدهما قبل الآخر فالحكم للأسبق، أو نبتت له لحية معتادة أو خرج منه مني فيحكم له بالرجولة، أو طلع له ثدي أو خرج منه دم حيض فيحكم بأنوثته.
قال السهيلي. هذا من باب الاستدلال بالعلامات وله مثل في الشريعة قول الله تعالى:{وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ}[يوسف: ١٨].
قال عبد المنعم بن الفرس: روي أن إخوة يوسف عليه السلام لما أتوا بقميص يوسف إلى أبيهم يعقوب تأمله فلم يجد فيه خرقا ولا أثر أنياب فاستدل بذلك على كذبهم وقال لهم: متى كان الذئب حليما يأكل يوسف ولا يخرق قميصه؟ إذ لا يمكن افتراس الذئب ليوسف وهو لابس القميص ويسلم القميص.
واجتمعت العلماء على أن سيدنا يعقوب عليه السلام استدل على كذبهم بصحة القميص، فاستدل الفقهاء بهذه الآية على إعمال الأمارات في مسائل كثيرة منِ الفقه. وقال الله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨)} [يوسف: ٢٦ - ٢٨].
قال ابن الفرس: هذه الآية يحتج بها من العلماء من يرى الحكم بالعلامات والأمارات فيما لا تحضره البينات.
(١) يبدو حسب القصة أن الجارية سخيلة هي التي أوحت بالحكم المذكور فاقتنع به ذو الأعواد وقضى به.