للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أقول: ومن باب الاستدلال بالعلامات ما هو جار عندنا بسوف في معرفة الأثر (الجُرة) (١) إذ من الأرجل: الطويلة والقصيرة والعريضة والرقيقة والخميصة والملساء وذات التجاعيد وذات العروق البارزة وذات الشقوق والمعتدلة ومنفرجة الأصابع وملتصقتها وطويلة الأصابع وقصيرتها وزائدة الأصبع وناقصتها والحنفاء (القبحاء) والشيظاء (الطرقاء) وإلى غير ذلك من أوصافها.

وأرضنا رمال وأمرها مهمل خصوصا حال العرب الرحًّالة الساكنين حول البلاد وبعميش فإنها لولا معرفة الأثر لكثرت السرقات وتعطلت المنافع ولوجد كل مفسد مراده منها؛ ولذلك حكم الشيخ سيدي خليفة بن الحسن القماري ناظم


(١) بما أن بصمات الأصابع (آثار الأصابع) وهي من قبيل الاستدلال بالعلامات تعتمد عليها العدالة في أحكامها وتعمل بها في تحقيقاتها، فكيف لا يصح بآثار الأقدام (الجُرَّة)؟! وقديما قال العرب في استدلالهم: البعرة تدل على البعير وآثار الأقدام تدل على المسير، وقد يقصدون بذلك أيضا الدلالة على صاحب المسير. وبين أهل الصحراء وسوف بلغ الكثير منهم مستوى كبيرا في براعة تحليل آثار الأقدام والتوصل من خلالها إلى التعرف على صاحبها جعلهم خبراء ذوى اختصاص في هذا الميدان ويطلق عليهم اسم (عرافي الجُرَّة).
ومما يدعو إلى التعجب والإعجاب أن عراف الجُرَّة علاوة على اكتشافه للمعتدي اعتمادا على شكل قدميه (جرته) قد يتوصل بفضل فراسته إلى استنتاجات أخرى مثل أوصات المعتدي: طول قامته أو إن كان أعرج أو أعور أو بدينا أو ضعيف الجسم وغير ذلك. ومثل زمن الاعتداء: ليلا أم نهارا، قبل الزوال أم بعده إلخ، وتحاشيا للإطالة هنا أكتفى بتقديم نموذج واحد في ذلك.
سألت مرة رجلا من عرافي الجُرَّة على الأدلة التي اعتمدها في الحكم بأن سرقة التمور من غوط فلان جرت ليلة البارحة لا نهار الأمس فكان بعض ما أذكره من جوابه هو:
أولا: كان على جرة السارق آثار مشي الفئران وهي غالبا لا تخرج من جحورها وتنتقل بحرية إلا أثناء الليل.
ثانيا: على الجرة آثار قطرات الندى والندى لا ينزل إلا ليلا.
ثالثا: كانت الجرة واضحة المعالم سليمة لم تصادفها ريح نهار الأمس التي لم تهدأ سوى أول الليل الماضي.
ومما يحكى عن الاستدلال بالجُرَّة أن ضابطا فرنسيا عندما عُيِّن رئيسا للإدارة بالوادي - في عهد الاستعمار - أراد أن يتأكد من صحة هذا العمل العرفي ليعتمده بدوره في أحكامه، ففي ذات ليلة خلع حذاءه وذهب منفردا مستترا إلى أحد البساتين القريبة وقطع عرجون تمر من نخلة صغيرة ثم عاد إلى منزله، وفي صباح الغد ذهب صاحب البستان إلى الإدارة يخبرها بالاعتداء على بستانه حتى تتخذ الإجراءات للكشف عن المعتدي، فأرسل الضابط من يحضر الخبير (عراف الجُرَّة) كعادة أهل البلد في مثل هذا الحادث، ولما حلل عراف الجُرَّة الآثار توصل نهائيا إلى اكتشاف صاحبها الذي هو الضابط، قيل: قد أعجب الضابط الفرنسي المذكور بفراسة الخبير واتخذه من ذلك اليوم خبيرا رسميا في هذا الميدان.

<<  <  ج: ص:  >  >>